د.محمد بن عبدالرحمن البشر
كتاب يستحق الحديث حوله مع ما فيه، وسوف نخوض في جداوله أينما أخذتنا، أو وجدناها في طريقنا، وفي هذا المقال، سوف نكتب ما يخطر على البال، بما يسمح به المجال، في كل ما يحيط بهذا الكتاب، وربما يأخذنا إلى مقال آخر إذا لم يكن هذا المقال كافياً، وسوف أفرغ قليلاً مما في جعبتي حول دروبه، فقد كان هذا الكتاب مخطوطة ومحفوظ لمدة طويلة إلى أن قيّض الله له محققاً ًأوربياً اسمه روسفيلد توفي عام ألف وثمانمائة وتسعة وتسعون، قام بتحقيقه وطبعه معتمداً على نسختين كانتا محفوظتين في الخزائن الأوربية، ولم تكن المواصلات والاتصالات في ذلك الوقت تسمحان له بالبحث عن مزيد من النسخ، لكنه أسس قاعدة لمن جاء بعده، يستفيد منها بعض المحققين، ومن أولائك الاستاذ رشدي ملحس -رحمه الله - الذي اعتمد على النسخة المطبوعة للسيد روسفيلد كأساس لتحقيقه، وعارضها مع ثلاث نسخ خطية اثنتتن منها في المدينة المنورة، والثالثة في مكة المكرمة، منقولة بخط الشيخ عبدالستار الدهلوي، نقلاً عن نسخة بدار الكتب بالقاهرة، وقد ذكر في تحقيقه أنه قد وجد أخطاء كثيره في تلك النسخة المطبوعة للسيد روزفلت، وهنا يمكن القول أن المواصلات والاتصالات وقفت أيضاً في طريق توسع الأستاذ رشدي ملحس رحمه الله، كما قام فضيلة الشيخ الدكتور عبدالملك بن دهيش وهو العالم والرجل السخي بماله وجاهه -رحمه الله - بتحقيق الكتاب تحقيقاً أشمل وأدق في البحث عن نسخ أخرى في أماكن بعيدة عن مكان إقامته، وما أعرفه يقيناً أن أحد الأساتذة الجامعيين الكرام وهو أستاذ غزير الإنتاج والبحث والتقصي، لاسيما في موضوع الحديث الشريف وعلم الأنساب، قد انبرى مع شيء من التحدي لتحقيق تاريخ مكة تحقيقاً جديداً موسعاً، مع علمه السابق أن ذلك سيكون صعباً ويتطلب عناء ومشقة وطول بال، وأن الأمر سيأخذ سنين، وما يجعلني أذكر ذلك، أنه استطاع -كما ذكر لي - أن يجمع ستاً وأربعين نسخة خطية لوريقات ونسخ كاملة مخطوطة، وهذا يدل دلالة واضحة على أن المواصلات والاتصالات القائمة في هذا الوقت، والتواصل بين المكتبات العالمية سهلة ويسهل وسوف يسهل على الباحثين الكثير من الجهد، وسوف يوفر للقارئ الكريم معلومات أكثر دقة، ليكون على بينة بما يقرأه.
مؤلف الكتاب هو أبو الوليد محمد بن عبد لله بن أحمد الأزرقي، وقد توفي في نهاية النصف الأول من القرن الثالث الهجري، ربما في عهد المستنصر بن المتوكل أو نحو ذلك، فقد ولد في مكة المكرمة وعاش بها، وجده أحمد عالم معروف، كنيته أيضاً أبو الوليد، وروى صاحب الكتاب كثيراً عن جده، وهو غساني النسب، وإن كان ابن سعد يدعي أنه رومي، وكما نعلم أن الغساسنة عاشوا في الشام متحالفين مع الروم، ومقر إقامتهم الفوطة القريبة من دمشق، كما كانت حال المناذرة اللخميين في العراق متحالفين مع الفرس، حيث كانت القوتان الكبيرتان في ذلك الوقت الروم والفرس.
وعائلة الأزرقي تعود إلى عثمان بن عمرو بن الحارث ابن أبي شمر من بني جفنه الغسانيين، ويلقب بالأزرق، قدم إلى مكة من سوريا في عهد النبوة، وصار حليفاً للمغيرة ابن أبي العاص بن أمية، أما الحارث، هذا فكان ملكاً على الغساسنة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومات يوم الفتح، وقد أرسل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة مع شجاع بن وهب الأسدي، يدعوه إلى الإسلام، قائلاً فيها ما معناه (السلام على من التبع الهدى وصدق بالله وآمن، فإني أدعوك أن تؤمن بالله، وحده لا شريك له، يبقى ملكك) فلما وصلت إليه الرسالة، اختلفت الروايات في ردة فعله عند وصول الرسالة إليه، فهناك من يقول إنه جمع جيشه ليري ابن وهب، قوته ومنعته لنقلها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهناك من يقول إنه قد همّ بغزو المدينة المنورة، وأرسل رسالة إلى هرقل يستأذنه في ذلك، فوافق رسالة أخرى بعثها رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم إلى الحاكم الروماني جستنيان، والذي يسميه العرب هرقل مع أحد الصحابة واسمه دحية، كما أظن، فأمره هرقل بالتريث حتى يتضح ما يجري في المدينه، فأمتثل لأمر سيده، وبعد أن علم رسول الله صلى الله عليه وسلم برده، وما همّ به، قال: (باد ملكه)، فباد ملكه في عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن أقواله التي باتت مثلاً، قوله (الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود)، وقوله (إذا التقى السيفان، بطل الخيار) ووالدة الملك الغساني الحارث ابن أبي شمر، هي ماريا ذات القرطين، وهي أول امرأة تزيّنت بأقراط من اللآلئ تتدلى من أذنيها، وقد بالغ الرواة في وصف وزن قرطيها وجمالها، وقيل أنمها درتان أكبر من بيض الحمام، والمثل يطلق على الشيء النفيس (خذه ولو بقرطي ماريا) أو قولهم (أنفس من قرطي ماريا)، أما اسم ماريا فتعني القطاة الملساء المكتنزة لحماً وشحماً.
يقول حسان بن ثابت الأنصاري مادحاً الغساسنة:
لِلَّهِ دَرُّ عِصابَةٍ نادَمتُهُم
يَوماً بِجِلَّقَ في الزَمانِ الأَوَّلِ
أَولادُ جَفنَةَ حَولَ قَبرِ أبيهِمُ
قَبرِ اِبنِ مارِيَةَ الكَريمِ المُفضِلِ
بيضُ الوُجوهِ كَريمَةٌ أَحسابُهُم
شُمُّ الأُنوفِ مِنَ الطِرازِ الأَوَّلِ
وسوف ندندن حول كتاب أخبار مكة في مقال الأسبوع الموالي إن شاء الله.