د. عبدالحق عزوزي
وسط عدة مخاوف من حدوث أزمة مصرفية عالمية، شهدت العملات التي تعد ملاذات آمنة مثل الدولار والين، إقبالا كبيرا هاته الأيام، وذلك بعد انتقال تأثير انهيار بنك سيليكون بالولايات المتحدة عبر المحيط الأطلسي إلى بنك «كريدي سويس» بسويسرا؛ وفي هذا الجانب، وفي خطوة ترمي إلى تجنب حدوث المزيد من الاضطرابات في القطاع المصرفي العالمي، اشترى بنك «يو بي أس» منافسه الأصغر بنك «كريدي سويس» مقابل ثلاثة مليارات فرنك سويسري ووافق على تحمل خسائر تصل قيمتها إلى 5.4 مليار دولار في اندماج لا سابق له نفذته السلطات السويسرية؛ كما سارعت الخزانة الأمريكية بالإضافة إلى المركزي الأوروبي لتشجيع هذا الإجراء بسبب مخاوف من اضطرابات جديدة في الأسواق التي ضعفت على إثر إفلاس «سيليكون فالي بنك» قبل ذلك بأيام.
فقد أغلقت السلطات الأمريكية هذا المصرف وفرضت عليه رقابتها، إثر عجز المؤسسة المالية الكاليفورنية عن تلبية عمليات السحب الهائلة لعملائها؛ وتسبب ما يعد أكبر إفلاس مصرفي أمريكي منذ الأزمة المالية للعام 2008 وثاني أكبر فشل لبنك للتجزئة في الولايات المتحدة، في قلق الزبائن وتساؤلات حول العواقب وموجة ذعر في الأسواق العالمية.
فلم يكن بإمكانية «سيليكون فالي بنك» تلبية عمليات السحب الكبيرة التي قام بها عملاؤه لأموالهم، والذين يشتغلون خصوصا في مجال التكنولوجيا، كما لم تنجح محاولاته لزيادة رأس المال بسرعة.
كما أن هذا المصرف لم يكن معروفا لدى الجميع، إذ تخصص في تمويل الشركات الناشئة وأصبح البنك الأمريكي السادس عشر في حجم الأصول؛ وفي نهاية 2022، كانت لديه أصول بقيمة 209 مليارات دولار وودائع تبلغ 175.4 مليار.
وطبعا فالأسواق الدولية لا تعجبها مثل هاته الأخبار؛ وأعادت المخاوف بشأن سلامة القطاع المصرفي عن بكرة أبيه لا سيما مع الارتفاع السريع في أسعار الفائدة الذي أدى إلى انخفاض قيمة السندات في محافظهم ورفع تكلفة الائتمان. وخسرت أكبر أربعة مصارف أمريكية 52 مليار دولار في سوق الأسهم ثم تعثرت بعدها البنوك الآسيوية ثم الأوروبية.
قوانين الجشع والطمع والنفاق والاحتيال واللوبيات وغياب الشفافية والوضوح التي تتفنن بالمناسبة المؤسسات المالية الدولية في فرضها على الدول الفقيرة، هي التي ولدت الأزمة المالية لسنة 2008 وهي التي خلقت رجلا مثل برنارد مادوف، وهي أيضا التي تخلق تلكم السياسات العجيبة للدول القوية في النظام العالمي وتفرضها بذكاء على بعض الدول ومنها الدول العربية، العربية وإذا قرأت في تحاليل جادة عن أيادي يهودية وإسرائيلية من وراء ذلك، فلا تستغرب.
ومن أراد أن يفقه هاته القصة جيدا فعليه أن يشاهد فيلم The Wizgard of Lies، وهذا الفيلم يصور حدثا فريدا يمكن أن نسميه بأكبر عملية نصب تاريخية في دولة ديمقراطية متقدمة تعج بالمراقبات المالية المتنوعة والقوانين الدقيقة، وأعني بذلك الولايات المتحدة الأمريكية. بطل عملية النصب هاته هو السيد برنارد مادوف الذي تم اعتقاله منذ أزيد من 15 سنة عن طريق مكتب التحقيقات الفدرالي؛ وتعتبر عملية النصب تلك التي تدعى بسلسلة بونزي، عملية تم فيها النصب على ما يزيد على 50 مليار دولار وجرت على عقود من الزمن، ولا أعرف في التاريخ البشري أكبر عملية نصب مثل هاته حيث تمت على يد شخص واحد، وكتم احتيالاته حتى عن زوجته ناهيك عن ولديه الذين كانا يشتغلان عنده. وقد كان ممنوعا على الولدين الوصول إلى الطابق 17 هذا الطابق الذي كانت تشتغل فيه شياطين الإنس الذين يزورون ويسولون ويملون لكبار أغنياء العالم درب الاغتناء السريع والآمن. وفي الفيلم نرى أناسا يضعون في حسابات برنارد مادوف كل ما يملكون وبملايين الدولارات ليجدوا أنفسهم ذات يوم بدون درهم واحد، ومن هؤلاء من انتحر...
برنارد مادوف كان أستاذا بسيطا للسباحة قبل أن ينشئ صندوقا للاستثمار بـ5000 دولار أمريكي. عرف هذا الرجل بذكائه وبعبقريته وبسرعة بديهته إلى أن ثبت رجليه في عالم المال، ووصل به ذكاؤه أن ترأس الناسداك (Nasdak) وهي بورصة القيم التكنولوجية وكان ذلك من سنة 1990 إلى سنة 1991. وبرنارد مادوف هو أيضا من النخبة اليهودية النيويوركية الملهمين بالذكاء المالي أينما حلوا وارتحلوا... وهو كان يأخذ من أموال المستثمرين الجدد ليعطي منها إلى المستثمرين القدامى، وبذلك كان يعطي للجميع انطباع النجاح الدائم والأكيد والسريع، والاستثنائي في عالم مالي يطبعه المجهول واللايقين والغموض... وبناء على ذلك كان هذا المحتال يجذب باستمرار العديد من المستثمرين الجدد، وكان هؤلاء المساكين الجدد يجهلون أن هذا الرجل يقوم بتبذير الأصول التي يقومون بإيداعها عنده، وعندما نشبت أزمة 2008 حاول البعض سحب إيداعاتهم وممتلكاتهم ولكن هيهات هيهات.... يكتشف المقربون من برنارد مادوف الفضيحة، يتم التواصل مع السلطات، فيتم الاعتقال والمحاكمات المتتالية.