أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
ظاهرة النقد الأدبي والدراسات النقدية التطبيقية - إلى قرب عهد ابن حجة الحموي - لا تختلف كبير اختلاف في ملامحها.
وإنما الذي استجد - حسب تصفحي السريع لبعض فهارس كتب النقد والبلاغة - الأمور التالية:
1- التوسع في الاستدلال والشرح والتمثيل لتلك القضايا النقدية بعينها بالإضافة إليها في حدود منهجها.
2 - تطور الدراسات البلاغية وطغيانها على الجانب النقدي أكثر من ذي قبل.
3 - كثرة المصطلحات النقدية والبلاغية، وكثرة المصطلحات تشوش على الذهن ويصعب على الذاكرة استيعابها، ولكنها تفيد في تحديد المعاني وتميزها، ولعله بالمقارنة بين كتابي البديع لابن المعتز والخزانة لابن حجة تتضح هذه الحقيقة.
4 - تعقد الدراسات البلاغة وفقدانها للمتعة الأدبية عندما ربطت اقتساراً بالمصطلحات الفلسفية والمنطقية.
5 - الإخلاص للبديع والتفرغ له واعتباره أصلاً وغرضاً بعد أن كان متمماً ووسيلة والسر في ذلك:
أنه لم يحدث تطور في أدب ونقد الأمم المجاورة.
فلما تطور الأدب والنقد في الغرب وتعددت مذاهبهما تبلور الأدب الحديث.
ونشطت حركة الدراسات الأدبية والنقدية منذ وجدت أو استجدت قضية (القديم والجديد) التي كانت سبباً في انتعاش النقد الأدبي القديم.
وكان نشاط الدراسات الأدبية والنقدية على يد أعلام النهضة الحديثة الذين أشرفوا على آداب الغرب.
ولتحديد مفترق الطرق بين الأدبين القديم والحديث يجب أن نحدد الملامح التي حصر بها الأدب الحديث مادة الأدب والنقد.
لقد نظر المحدثون إلى الأدب على أنه فن من الفنون الجميلة كالموسيقى والرقص والتصوير، ورأوا أن هذا الغرض من كل فن جميل، ورأوا أن المتعة والإثارة لا يمكن أن تتأتى إلا من خمسة عناصر لا يتصور العقل غيرها:
1 - عنصر اللفظ في فصاحته وموسيقاه.
2 - عنصر الأسلوب وهو سلامة التركيب.
وهذان العنصران يحتكم فيهما إلى حاسة السمع، والعنصر الثاني يحتكم فيه أيضاً إلى غريزة العقل؛ لأن فساد التركيب يتعب الفكر في استخلاص المعنى.
3 - عنصر المعنى ويحتكم في هذا إلى العقل والمشاهدة.
4 - عنصر العاطفة للأديب ويحتكم فيها إلى عاطفة السامع، وأنا أفضل تقسيم هذه العناصر إلى تقسيم آخر أصح وأوجز.
فأقول إن للأدب مصدراً وله عناصر.. فأما مصدره فهو العاطفة بأن يصدر عن عاطفة بحيث يكون مؤثراً في إثارة عواطف الآخرين والتقنين لذلك يكون من علم النفس والجمال.
وأما عناصره فاثنان :
الشكل والمضمون :
فالشكل يتناول اللفظ والأسلوب.. والمضمون يتناول المعنى والخيال.
والتقنين لهذه العناصر يستمد من علم الدراسات الجمالية وهي المقاييس الجمالية لما يريح النفس من موسيقى الكلمة، والمقاييس الجمالية لما يعجب العل ويطرب الخيال لما تثيره الكلمة أو الكلام من صورة أو معنى، وبهذا نجمع بين المذهب الجمالي في النقد والمذهب النفسي؛ وإنما حصل هذا الجمع بالتفريق بين مصدر الأدب وعناصره ومهما اختلفت مذاهب النقد الحديث وتعددت مصطلحاته فإنها في النهاية تستمد براهينها من علمي الجمال والنفس.
وليس جمعنا بين المذهب الجمالي والنفسي من المذاهب التلفيقية، بل إن طبيعة الواقع هي التي حتمت هذا الجمع.
فكل التعريفات اللغوية والاصطلاحية للجمال والحسن وكل مقاييس الجمال والحسن تتفق في شيء واحد:
هو غمرة القلب باللذة والمتعة والبهجة والسرور والأنس، وكل شيء نسميه عاطفة هو انفعال القلب.
فلا عجب إن جمعنا بين المذهب الجمالي والنفسي؛ لأن الجمال أحد انفعالات النفس.
وهذه الأصول العامة للنقد لا نقول إن الأدب العربي القديم كان يجهلها.
فقد أسرف النقد الأدبي القديم في دراسة اللفظ والأسلوب والمعنى وتناول بعض مسائل الخيال المتمثلة في التشبيه والاستعارة والمجاز وتناول بعض مسائل العواطف.
ولكن أداة الناقد العربي القديم قصرت به في العمل والشمول الذي حققه العصر الحديث، ولذلك عدة أسباب أهمها:
1 - أن الدراسات الصوتية والموسيقية تطورت في العصر الحديث تطوراً هائلاً ومن هذا التطور أصبح إيحاء الكلمة مذهباً يعرف بالرمزية.
وبهذا التطور أصبح الشعر المرسل - هو الشعر المنثور، وهو غير الحر - قسيماً للشعر العمودي عند الريحاني وأضرابه؛ لأن في موسيقاه الداخلية عوضاً عن الموسيقى الخارجية المتمثلة في الوزن والقافية.
2 - لم يكن للعرب علم مستقل قط يعرف بالاستاتيكا أو الدراسات الجمالية وإنما استقل علم الجمال في العصر الحديث.
فأصبح مصدراً ثراً لتحديد القيم الجمالية، وتحديد الأولية للأدب.
3 - تطورت الدراسات النفسية والاجتماعية في العصر الحديث فكان لذلك أعظم الأثر في تحليل الأدب وسبر أدغال النفس والعواطف.
4 - توسعت ثقافة الأديب الحديث والناقد الحديث بما يقروءه من تراث جديد في اللغة والفلسفة والتاريخ وبما فهمه من أسرار الكون التي أعلنها العلم الحديث وتوسعت آفاق مشاهداته في المعمورة بما يرى من عجائب البر والبحر ومحدث الصنع.. فتعددت بذلك أغراض الأدب ومع تعدد أغراضه تعددت قضاياه النقدية.
5 - إن النقد الأدبي العربي القديم الذي أفاد من فلسفة اليونان ومنطقة لم يفد من الأدب اليوناني والنقد اليوناني ككتب أرسطو النقدية - وإن ترجمت قديماً - وككتب هوراس وصاحب الإلياذة .
6 - أن الخيال العربي القديم مقيد بالجزئيات التي تبدو في تشبيهات جزئية وربما تطور خيالهم إلى تخيل عوالم ولكن هذا الخيال صورة لما شاهدوه أو سمعوا به في الخبر كإسراء ابن عربي وتوابع ابن شهيد ورسالة الغفران أما الأدب الحديث فقد توسعت آفاق الخيال عنده باختراع عوالم وأحداث خيالية ولعل شيوع روايات ذات أثر لا يجحد في تطور خيالات الغرب.. وإلى لقاءٍ قادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.
** **
كتبه لكم/ (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين