يطلب بعض المتناقشين حول موضوع ما من بعضهم البعض عدم التنظير، ويبدأ أحدهم بقوله: أنا لا أُنَظِّر ولكن من وجهة نظري كذا وكذا، هو في الحقيقة يُنَظِّر لأن إعطاء وجهة نظر يعتبر تنظيراً، فلِم الفزع من التنظير، طبعاً هناك أنواع من التنظير مجنحة في المثالية، أو تخرج بك عن الموضوع، أو يكتفي فيها المنظر بفرد عضلاته الفكرية، وسرد منجزاته، ولكن وجود مثل هذه التنظيرات لا يدعونا لإغلاق باب التنظير المفيد الذي لا يملك أحداً إغلاقه أصلاً، لماذا؟ لأنه لا يستطيع أحد إيصال فكرته إلا بالتنظير، ولا يستطيع أحد أن يقدم على عمل ما، إلا ويسبقه تنظير، وهناك فرق بين التنظير المعقول والذي يتبعه العمل، والتنظير المفتوح الذي بغير مدى ولا أُطر عملية قابلة للتنفيذ، إذا كانت ثقافتك متدنية فتعلم، وثقف نفسك، لا أن تتهجم على المنظرين بسوط الجهالة المجلجل.
يدعونا ذلك للنزال الأبدي بين الجماهير والنخب، الجماهير قوة عظيمة لا يستهان بها، وهم وقود الأزمات الكبرى، ومروجو المقولات السيارة سواء كانت مفيدة أم لا تعمل، الجماهير أصحاب ثقافة مغلقة ويصعب النفوذ إليها والتأثير فيها، فلها قوانين عتيدة، وقواعد فهم راسخة، بعضها مفيد وبعضها عبارة عن قيود أزلية، وبين الطبقتين توجس وحذر، ونقاط التقاء تضيق في مجتمعات وتتسع في أخرى مما يوفر مناخاً مناسباً لتبادل التهم، سواء بالخيانة أم بالانغلاق، بالتميع أم بالتشدد، وهكذا، ولكن التفوق حليف النخبة دائماً في التوصيف، فالجماهير عاطفية بطبعها وتوزع التهم حسب المزاج، وتميل مع الهوى حيث مال، وحتى وإن كان لها قوانين تحكم بها حركتها داخل المجتمع فإن إصدارها للأحكام غير منطقي، ولا مبني على حجج واضحة، بخلاف النخبة التي تستطيع دراسة المجتمعات بأدوات منهجية مؤصلة، علاقة هذا بالتنظير أن التنظير يقع على عاتق النخبة لأنها تملك القوة المناسبة لهذه الممارسة، بينما التنفيذ يقع على عاتق الجماهير لأنها تملك القوة المناسبة لهذا الفعل، فإذا ضاقت الهوة بين الطبقتين، وخف التوجس بينهما، قطعت التنمية أشواطاً في سلم الحضارة، وأما إذا اتسعت هذه الهوة، لزم على الدول التدخل وتسيير عملية التنمية من فوق لا من أسفل، وإن حصل وتواءم الجميع على فكرة واحدة خلاقة، تستند إلى هوية واضحة، وهدف واضح، وطريق واضح، فالجماهير طاقة، والنخب عقل، والدول جسد عملاق إذا نهض بكامل مكوناته دخلت الدولة التاريخ من أوسع الأبواب.
الثقافة بوصفها هوية جامعة تعطي المجتمع سبباً للمحافظة على المكتسبات، بينما الثقافة كوسيلة للاستهلاك تنزع بالناس إلى الأنانية، وعدم الحرص على الممتلكات العامة، ومحاولة الاختلاس، لذلك من المفيد ضخ المزيد والمزيد في سبيل صقل الهوية والتعريف الذاتي للمجتمع، وتعزيز النحن الواعية من خلال الأنشطة المتنوعة اجتماعياً، وأدبياً، مما يجعل الرغبة في التنمية المستدامة هاجس داخلي حاضر، ونابع من مقومات المجتمع نفسه، هنا يسير التنظير إلى جانب التطبيق في تواز تام.