الإنسان ليس معمراً في الحياة، فهو بين طرفة عين، ورمشة عين أخرى، قد يُحلق بعيداً عن عالم الحياة الدنيا إلى ظُلمة القبر، والدار الآخرة، الغالي منا يعتقد في قرارة نفسه أنه قوي وصاحب عضلات مفتولة وصاحب بأس شديد وصاحب عظمة وسلطة، إلا أن تحين تلك الساعة، تخور القوى وتضعف السواعد، وتتحين الفرص للقاء الواحد الأحد الفرد الصمد..
من المؤكد أن المرح والحياة الدنيا جميلة، وزاهية، ومغرية، لدرجة أن الإنسان ولو مجرد تفكير لا يرغب أن يغادرها في فكره، ولذلك القليل منا والحكيم، وبعيد النظر، هو من يسابق الوقت ليتزود ويهيئ لنفسه داراً غير داره، فيها المستقر، والوعد الإلهي، بأنها الدار الآخرة، فمن اجتهد في بناء داره وعمله، فاز والله بما وعد الرحمن، ومن فشل وهزمته الإغراءات، فخسر خسراناً مبيناً..
في جوانب الحياة تظهر لنا ذكريات لا يمكن نسيانها، ولا يمكن تجاهلها، ولا يمكن لنا إلا أن نقدسها لما حملته من شخصيات رائعة ومؤثرة وبعلاقات وصلات جد عميقة..
ما نعرف قيمة الأشخاص والشخصيات وقربها منا أو بعدها عنا، إلا بعدما نفارقهم، وبعدما نستشعر وجودهم معنا في الحياة ولا نجدهم، وبعدما نحاول أن نتواصل معهم، ولا لهم سوى الأثر في الصور والرسائل والذكرى الخالدة..
ما نقدسه حقاً في أشخاص كانوا بجانبنا، هو ابتسامتهم، وضحكاتهم، وأحزانهم، ومحبتهم، وأفراحهم، مواقفهم الباسمة، لقد عِشنا معهم عمراً وسنوات طِويلة، ولم نعلم أنه في لحظة ممكن أن يغادرونا خِلسةً، وبلا سابق إنذار..
الحياة محطات جميلة، وفي كل محطة من محطات الحياة أشخاص جميلون ورائعون، وأشخاص لربما تنوي المضي معهم سنوات عمرك بلا ملل وبلا كلل، من إيجابيات أودعها الله في أرواحهم، فهم حينما يكونوا بجانبك السعادة تضفي بجناحيها على حياتك، والفرح يزهو مبتسماً في عينيك، والحُب يغرد بطلاقة لسانك وأحرفك..
هل ندعهم يذهبون ولا نودعهم..؟
لا والله لا ندعهم يذهبون ويغادرون الحياة الدنيا إلا ودعواتنا تسبقهم بأن رحمة الله وسعت كل شيء، وأن الله مستودع عباده المؤمنين، وأننا نحاول أن نتصل بهم عبر الدعاء وعبر الصدقات، والأعمال الصالحة التي تهدي طريقهم للجنة، والأعمال التي تدخل السرور عليهم بعد مغادرتهم دار الدنيا لدار الفناء..
جميعاً سوف نغادر يوماً، ولكن المتاع الذي نهيئه لطريق المغادرة هل هو كفيل بأن يكون غذاءنا الوحيد في الآخرة، هذا يعتمد على ما جهزناه وما عملناه في الحياة الدنيا من أعمال تُرصد لنا للحياة الآخرة، وتكون عوضاً جميلاً لنا في دار القرار، وزاد لنا نستطعم لذته حينما نقف تحت يدي الله ورحمته..
هناك شخصيات غادرت الحياة، ولكنها لم تغادر مخيلتتا، ولم تغادر رونق حياتنا الشخصية، ولربما الحياة الاجتماعية والوطنية، لعظيم ما قدموه لآخرتهم، بناء مسجد يرفع فيه الأذان، وزكاة، وكفالة أيتام، وتزويج عزاب، وصدقة جارية لا يلحقها منّ ولا أذى، وأعمال بر وخير مستمرة بعد مماتهم، وبراً من ذريتهم بهم، فهم في جنات الله خالدون فيها بإذنه، هؤلاء الأشخاص حبوا الله فحبهم، وزادوا في الانفاق فزاد الله في سعة رحمته بهم..
دعونا نستقبل شهر الخير والبركة شهر رمضان بالعمل الصالح والصادق ونقابل الحياة بنظرة الحياة الدنيا مزرعة الآخرة فمن أحسن البذر سعد بالثمر.