عبدالوهاب الفايز
أصبح أمراً عادياً تجدد مثل هذه الأخبار..
(خسرت أسهم القطاع المالي عالمياً 465 مليار دولار من قيمتها السوقية في يومين، حيث خفض المستثمرون تعرضهم للبنوك من نيويورك إلى اليابان في أعقاب انهيار بنك سيليكون فالي).
أو تسمع أن ثروة بليونير تراجعت أو زادت 20 أو 30 مليار دولار في يوم واحد.
أو تقرأ عن شركة يحلق سهمها في الآفاق.. ثم تهوي كالشهب.
هذا المشهد المخيف، هو ثمرة نمو أسواق المال وتضخم البنوك في العقود الأربعة الماضية، بالذات في أمريكا حيث نمت أربعة أضعاف منذ بداية ولاية الرئيس ريجان. مطلع الثمانينيات أطلقت خطة ريجان الاقتصادية الرأسمالية الجديدة عبر سلسلة من التشريعات التي حررت القطاع المالي وأطلقت حرية الأسوق، وفتحت الطريق للاستدانة الحكومية، ورفعت معدلات الفائدة التي شلت النشاط الاستثماري. وكذلك رفعت الفائدة على القروض السكنية لتصل إلى حدود 20 بالمئة، وهذه كانت بداية تقلص مقومات دولة الرفاه الاجتماعي.
والمفارقة أن الذين وضعوا الخطة الأولى للتنويع الاقتصادي من مستشاري الرئيس لم يتوقعوا أن تنفلت في خفض الضرائب وتحرير الاقتصاد وتقليص الإنفاق الحكومي والاستدانة، وهذا دفع بمستشاري الرئيس الذين وضعوا خطته الاقتصادية إلى الابتعاد عنها ومن ثم انتقادها بعد اختطافها من أصحاب المصالح. والاقتصاديون المؤرخون لهذه الحقبه يعتقدون هذه الأيام أن ملتون فريدمان، رائد مدرسة شيكاغو التي بنت الرأسمالية المحدثة، لو عاد لأصيب بالصدمة. فما حدث هو تخريب حقيقي للاقتصاد الأميركي والعالمي، والشعب الأمريكي هو أكبر المعانين من تطرف وتغول هيمنة أسواق المال والبنوك على الاقتصاد. (القطاع البنكي يشكل 35 بالمئة من الاقتصاد).
وأثناء الأزمة العالمية عام 2007، كان أول المتخوفين من تداعيات الأزمة هو ألن غرينسبان الرئيس السابق للبنك الاحتياطي الفيدرالي والذي توقع أن يكون النمو الاقتصادي المتزايد في مصلحة الفئات ذات الدخول العالية، أما العمال الذين يحصلون على دخول لا تزيد على المتوسط المتعارف عليه فإنهم في وضع لا يحسدون عليه أبداً. وتوقع أن تؤدي هذه الظاهرة إلى توترات اجتماعية عظيمة، وربما أسوأ من هذا: أي يمكن أن تفضي إلى انقلابات اقتصادية جذرية، وهذا ما نرى مؤشراته مع استمرار انهيار البنوك. (انظر كتاب انهيار الرأسمالية، اولريش شيفر، عالم المعرفه).
في أمريكا، صدرت في العامين الماضيين عدة مؤلفات للنخبة الاقتصادية والمالية تحذر من تطرف الرأسمالية، وأطروحاتهم تؤسس لتيار فكري جديد يتبنى إيضاح خطورة هيمنه الرأسمالية المالية على الاقتصاد، وآخر الكتب الجديدة للمؤرخين الاقتصاديين نعومي أوريسكس، إريك م. كونواي: (الأسطورة الكبيرة: كيف علمتنا الأعمال التجارية الأمريكية أن نخفي الحكومة ونحب السوق الحرة). يقدم المؤلفان سردًا تاريخيًا عميقًا ومذهلًا لتطور أسطورة السوق الحرة في أمريكا.
والدخول الملحوظ للمؤسسة الفكرية، بالذات من أساتذة الجامعات النخبوية التي تعد إحدى قلاع الفكر الرأسمالي، سيكون له الأثر المباشر على الشارع وعلى النخبة الحاكمة داخل أمريكا، والخوف أن يوسع حدة الاستقطاب السياسي، فهذا له مخاطره على مواقف أمريكا الخارجية. فالنخبة السياسية المحاربة ربما تستثمر هذا الشقاق السياسي الداخلي لشن الحروب الاقتصادية والعسكرية مع دخول الاقتصاد في مأزق حقيقي نتيجة تعاظم الديون الحكومية، وتوسع التكتلات الاقتصادية العالمية، وانكسار حاجز الخوف أمام التخلي عن الدولار في التعاملات المالية الدولية، والأهم: سقوط البنوك الأمريكية، وارتفاع مخاطر أسواقها المالية.
الهيمنه المالية على النشاط الاقتصادي تجدد المخاوف من مشاكل البنوك والمؤسسات المالية الكبرى. فعجز القطاع المالي سوف يقود إلى مشكلة أخرى كبرى وهي: غياب التمويل لمشروعات التنمية الإنسانية، وعجز (تمويل المشروعات الكبرى أو العظمى). فالبنوك الكبرى والمشروعات العظمى تحمل عوامل نجاحها وإخفاقها، ومخاطرها دائماً عالية، وآثارها السلبية أو الإيجابية تتعدى الزمان والمكان.
أسواق المال انحرفت عن دورها التقليدي، فهي وسيلة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وليس للثراء السريع الفاحش. التفكير السليم يرى أن الأسواق لا تكون فوق الاقتصاد الحقيقي الذي ينفع الناس، ويساهم في بناء المشاريع الإنسانية والاجتماعية، ويبني المصانع والمزارع والطرق والمستشفيات، ويسهل للعصاميين بناء الشركات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة مستثمرين إبداعهم وتعبهم وصبرهم وتحملهم للمشاق. فهؤلاء نجاحهم يتشارك فيه أبناؤهم وجيرانهم، والعاملون معهم، وخيره يصل للفقراء. والأهم: نجاحهم يوجد النماذج الإيجابية التي يتعلم منها الأبناء وتتوارثها الأجيال.
هذه الروح البناءة للاقتصاد قتلتها أسواق المال حين أتاحت بناء الثروات من الهواء، فالنقود أصبحت تولِّد النقود، ولا تولِّد الوظائف وفرص التجارة، والعمل والمبدع.
أسواق المال جعلت الشركات تبني مؤشرات نجاحها وتفوقها على أمور لا تهم المجتمع ولا تتحرى مصالح الدولة، أو مصالح العاملين فيها. جعلت أولوياتها تحقيق مصالح ملاك الأسهم. ولا مشكلة في هذا إذا كانت الملكيات للأسهم تحقق توزيع الثروة، والملكية ولا تتركز في أيدٍ قليلة.
ومراعاة حقوق ملاك الأسهم أوجدت عقيدة خفض التكاليف المستمر، وغالباً يتم الخفض عبر الأسلوب الأسرع: أي فصل وتسريح العاملين وخفض الحقوق والمميزات لصغار الموظفين. تعظيم مصلحة ملاك الأسهم مقابل العاملين في الشركات أو مصلحة الاقتصاد الوطني أدت إلى تفكيك الصناعات في أوروبا وأمريكا، ونقلها إلى مناطق إنتاجية جديدة. أسواق المال مكنت الشركات الكبرى من إقصاء المنافسين عبر ابتلاع الكيانات الصغيرة مقابل القيمة السوقية للأسهم.
أيضاً من الظواهر الضارة الناشئة عن هيمنة أسواق المال ظاهرة التعظيم السريع للثروات الخاصة. كانت هذه الظاهرة معروفة سابقاً في فترات الأزمات والكوارث، حيث يولد تجار الحروب على فترة زمنية ممتدة، بعكس أثرياء أسواق المال.. فالمضاربات اليومية وتنوع المنتجات سهلت وسرّعت بناء الثروات. وسهولة الثراء في الأسواق المالية له انعكاساته التربوية الضارة، فقد أوجد أجيالًا جديدة تتطلع إلى نعيم الحياة السريع بدون جهد.
نعم، لماذا التعب وأسواق المال موجودة؟ قربا مربط الوسادة منه.