أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
إن ما أسطره في هذا المقال لن يكون، كما تجري العادة تسطيره عندما يرحل الأحباب، سرداً وصفياً نمطياً تقليدياً شمولياً لسيرة ذلك الحبيب الراحل، أو إفاضة للحديث عن غيض من فيض مسيرته، والتغني بسمات من شخصيته، والتغزل بإنسانيته. فالحبيب الذي غيبه الموت يوم الاثنين 14-8- 1444هجرية والخليل الذى تربع على عرش قلبي واستوطن سويداءه نصف قرن ونيف وسيظل كذلك ما حييت يستحق بالتأكيد توثيق كل ذلك عنه بل هو أهل لذلك كله بامتياز، إلا أن سرد سيرة ذلك الحبيب ومسيرة ذلك الخليل أستاذي ومعلمي وشيخي ومرشدي الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الطيب الأنصاري- رحمه الله- لا يكفيها مقال، ومسيرته النيرة لايستوفيها مقام، والتغني بسمات شخصيته الفذة والتغزل بها لا تتسع لها أحرف وسطور. فهو العالم العلامة والمؤرخ والآثاري الأديب الأريب الذي ذاع صيته في الآفاق محلياً وإقليمياً وعالمياً، وعبرت إنجازاته العلمية وتنقيباته الآثارية الحدود بشكل لا يسعها من الذكر محافل أومنتديات وأقلام وكلمات الوفاء والعرفان وأطيافهما الزاهية. إن ما أسطره اليوم في هذا المقال قرائي الأعزاء إذاً هو استقراء يعكس تحديداً غيضاً من فيض أهم سمات إدارة أ. د. عبد الرحمن الطيب الأنصاري الناجحة إبان عمادته الثانية لكلية الآداب (كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية حالياً) بجامعة الملك سعود. وهنا عند حديثي عن السمت الإداري للدكتور الأنصاري لابد أن أستسمحكم عذراً كي تتضح الحكاية أن أقرن بالضرورة بين سيرته الجزلة- رحمه الله- ونزراً يسيراً من سيرتي المتواضعة التي تزامن مسيرها مع فترة عمادته الثانية لكلية الآداب- طيب الله ثراه- فرافقته سيرتي المسيركشاهد عصر على ذلك العهد الأنصاري المجيد. فقد عينت آنذاك بترشيح منه وكيلاً لكلية الآداب للشؤون الأكاديمية والدراسات العليا لأكثر من فترة، وعميداً للكلية بالنيابة عنه عدة مرات، وممثلاً عنه في أحايين عديدة في مجلس الجامعة وبعض لجانه الدائمة، وعضواً في مجلس كلية الدراسات العليا بالجامعة ممثلاً لكلية الآداب، وأميناً للجنة تقييم أداء الجامعة واستشراف مستقبلها التي ترأسها- رحمه الله- تحديداً بعد تقاعده من الجامعة. إضافة إلى كل ذلك فقد شرفني سعادته- طيب الله ثراه- أن أحظى باللقاء به مرات عديدة معلماً ومرشداً وموجهاً لي أستنير بآرائه وأستفيد من علمه أثناء مراحل إعدادي لبحث عن واقع النظرية العلمية في العلوم الإنسانية الطبيقية. وقد دعاني- رحمه الله- لنشر ذلك البحث في مجلة العصور المحكمة التي ترأس هيئة تحريرها آنذاك بعد أن ألقيته في حضوره بندوة المنهجية العلمية التي أسسها سعادته وشكل هيئتها التحضيرية. وقد شرفت بعضويتي في تلك اللجنة التي أسند- رحمه الله- رئاستها للصديق العزيز عالم اللسانيات الملهم أ. د. حمزة بن قبلان المزيني- وفقه الله- وكيل كلية الآداب للشؤون الإدارية فعملنا معاً آنذاك لنجعل تللك الندوة محفلاً أكاديمياً مرموقاً ًوعرساً أكاديمياً تعقده كلية الآداب على مستوى النخب بجامعة الملك سعود في الفصل الدراسي الثاني من كل عام. كما التقيت به ردحاً من الزمن غير قصير أثناء إعداد بحث آخر مشترك مع سعادته- رحمه الله- في موضوع يعنى بالسرد التاريخي والموضوعي للأقوام في القرآن الكريم. وقد نشر ذلك البحث في مجلة أدوماتو المحكمة العريقة التي ترأس -رحمه الله- هيئة تحريرها أعواما عديدة حيث شرفت باسمي موسوماً على البحث بجوار اسمه العلم السامق- رحمه الله-. ولا شك أن كل تلك الظروف الآنفة الذكر وغيرها مما لا يتسع المجال لذكرها قد عززت علاقتي بالأستاذ الدكتور عبد الرحمن الطيب الأنصاري وأهلتني عبر تجربتي الشخصية معه لأمسك بقلمي معبراً عما جاشت به نفسي عن السمت الإداري للدكتور الأنصاري.
فقد كان أ.د. عبد الرحمن الطيب الانصاري إدارياً مخلصاً نزيهاً متفانياً في عمله محنكاً عادلاً بكل المقاييس يمنح من يعمل معه الثقة وصلاحية صناعة القرار. فقد اتسمت إدارته بالحكمة والبصيرة والفحص والاختبار في الآن نفسه لمن هم أهل لثقته. وكان لايتخذ إجراءً في حق من استحقه إيجاباً أوسلباً الا بعد التأكد من حقيقة أهلية من يتخذ بحقه ذلك الإجراء. إدارة تأسست على حسن الإصغاء للغير وسياسة الباب المفتوح بلا استثناء للجميع دون تمييز بين الداخل منه إليه. كما اتسم سمته الإداري بالتدرج في القرار والحكمة في التعامل الصادق النزيه ضمن شعرة معاوية قوامه في ذلك قول الله تعالى الذي كان يردده عند اشتداد ظروف صناعة القرار الاستراتيجي والتكتيكي ألا وهو {يا أيها الذين آمنو عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (المائدة 105). وقبل كل ذلك وبعده فالدكتور الانصاري إداري كفؤ لا يحب الجمود ديناميكي متجدد يأبى السكون والترهل والخذلان قوي في الحق جريء فيما يراه خادماً للمصلحة العامة ومواكباً لها ضارباً عرض الحائط بالمصلحة الشخصية، متنكراً للذات لا يتحدث عن نفسه أبداً وإنما يترك منجزه ليتحدث عنه، فإدارته عمل قولها المنجز وسمتها الأداء وقوامها خير العطاء وأنبله.
وتحقيقاً لأهداف إدارته المؤسسية كان الدكتور الأنصاري -رحمه الله- يحرص على أن يعقد مجلس كلية الآداب عند التاسعة من صباح يوم الثلاثاء من كل أسبوع. وكان مجلسه الموقر بلا مبالغة محفلاً علمياً راقياً توجته حكمة الأنصاري وبصيرته النافذة الناقدة البناءة التي كانت كعادته لا تقبل تسطيح النقاش ولا أفقية الحوار. فقد كان سعادته في رئاسته لتلك المجالس يغوص- طيب الله ثراه- بأعضاء مجلسه، عبر الساعات الطوال التي يزيد زمن كل جلسة منها في أغلب الأحيان على خمس ساعات، في أعماق الموضوعات المطروحة يثريها حواراً ونقاشاً قبل أن يتخذ المجلس بالإجماع في غالب الأحيان قراراً بشأن أي منها. وكانت قرارات الدكتور الأنصاري شجاعة وجريئة وموضوعية عادلة لا يهمه عند اتخاذها بعد الدراسة والتمحيص لومة لائم مؤمناً بقول الله تعالى: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا...} الآية (الحج 38). ولعل من أهم سمات إدارة الدكتور الأنصاري نجاحه الباهر في المواءمة بين الشباب والشيوخ، فاستفادت الكلية من حرارة دماء الشباب وبصيرة الشيوخ وحكمتهم، فامتزج الحماس بالحكمة، ولبست الكلية نتيجة لذلك ثوبها القشيب وازدانت بتيجانها البهية تتهادى أمام ناظريه- رحمه الله- على سمفونية أرادها الدكتور الأنصاري أن تكون أنغام سلام ورمز تألق يتذوقه القاصي والداني. ومن جماليات إدارته بالنسبة لي لقائي اليومي به بين السابعة والثامنة صباحاً لمناقشة بعض الشؤون الأكاديمية المستجدة أو الطارئة التي تقع في مجال صلاحياتي نظاماً أوالوقوف على ما استبان حيال تلك الشؤون من ردود أفعال أقسام الكلية المختلفة حيال ما اتخذ بشأنها من قرارات موجهاً لي بكيفية التعامل مع تلك الردود ومتابعة سبل تنفيذ القرارات ذات العلاقة بالشكل الذي يحقق الأهداف ويرعاها بعون الله تعالى. وقد كان سعادته- رحمه الله- مغرماً بالتقارير الدورية لبعض لجان الكلية الحيوية ومرافقها الهامة. فقبل نهاية كل عام دراسي كنت أقدم لسعادته تقارير غنية بالتحاليل الإحصائية والجداول والهستوجرامات والمنحنيات ومعادلات استشراف المستقبل ونماذج التنبؤ لمختلف اللجان الأكاديمية التي كنت أرأسها على مستوى الكلية كلجنة الخطط الدراسية، ولجنة خطط الرسائل العلمية، ولجنة اختيار المعيدين، ولجنة تعيين أعضاء هيئة التدريس، على سبيل المثال لا الحصر. كما كان يكلفني- رحمه الله- بإعداد تقرير إحصائي سنوي لمجلة كلية الآداب ومركز بحوثا إضافة إلى إنجاز عدد من دراسات الجدوى في شتى المجالات التي كان سعادته- رحمه الله- يحرص على معرفتها واستشراف مستقبلها. وكانت معظم تلك التقارير المذكورة آنفاً تعرض على مجلس الكلية لمناقشتها واتخاذ القرارات اللازمة وإحالتها إلى اللجان ذات العلاقة لتنفيذها بالتنسيق مع اللجان المناظرة في مختلف أقسام الكلية إعدادا لعرضها على مجلس الكلية مرة أخرى بعد ملاحظات أقسام الكلية عليها، ويظل الحال كذلك بين أخذ ورد إلى أن تستقر وتتبلور القناعات وتستوي على الجودي. وأزعم أن بعضاً من القرارات المفصلية الهامة التي اتخذها مجلس الكلية خلال فترة عمادة الدكتور الأنصاري الثانية هي نتاج تلك النقاشات والإجراءات الموضحة أعلاه مثل تعديل الخطط الدراسية في الكلية بحيث يعد العام الدراسي الأول فيها مخصصا لمواد الإعداد العام التي يأخذها الطالب المستجد إجبارياً قبل أن يدلج في التخصص بداية من عامه الدراسي الثاني في الكلية. كما أزعم أن القرار الذي اتخذه مجلس الجامعة الموقر بفصل كلية الآداب عن كلية التربية بموجب مذكرة كلية الآداب في هذا الشأن هي نتاج لدراسات الجدوى التي كان سعادته- رحمه الله- يسندها لوكالة الكلية للشؤون الأكاديمية والدراسات العليا بالكلية إعداداً ومتابعة وتنفيذا ًوتحديثاً. ولا شك أن اعتماد العام الدراسي الأول في الخطة مخصصاً للإعداد العام من ناحية، وكذلك تحديد علاقة كلية الآداب بكلية التربية من ناحية أخرى يعدان من أهم أعماله الخالدة وإنجازاته الجليلة التي حفظت للكليتين بالجامعة حقهما الأكاديمي، وكفلت للطلاب الملتحقين بهاتين الكليتين مساراً علمياً عادلاً وتخصصياً مثرياً يتناسب مع معايير الدراسات الأكاديمية المعاصرة ومتطلبات سوق العمل. كما كان من نتاج تلك التقارير ودراسات الجدوي أن تشكلت لجنة على مستوى الكلية برئاستي لمراجعة خطط الرسائل العلمية للماجستير والدكتوراة التي انبثق عنها هيكل منهجي لكتابة الرسائل العلمية تبنته كلية الدراسات العليا بجامعة الملك سعود فيما بعد وعممته على مستوى كليات الجامعة لتطبيقه بعد أن لاحظت تحسناً ملحوظاً في مستوى خطط الرسائل العلمية. لذلك كانت فترة الدكتور الأنصاري- طيب الله ثراه- لعمادة الكلية آنذاك فترة ذهبية مثمرة عزز فيها فرص اللقاءات العلمية على مستوى الأقسام والكلية، ونشَّط البحث العلمي، وكثَّف من لقاءاته بزملائه يستشيرهم ويستنير بآرائهم ويوجد لهم أجواءصبة للإنتاج العلمي والعطاء الأكاديمي والإداري الناضجين.
وفي نهاية مقالتي هذه أرجو أن توسم إحدى قاعات التدريس الرئيسية بكلية السياحة والآثار باسم أ. د. عبد الرحمن الطيب الأنصاري مقترحا في الوقت نفسه وضع اسمه على متحف الآثار الذي أنشأه- رحمه الله-. كذلك أقترح أن يقوم مركز التوزيع الصوتي بالجامعة بالتنسيق مع كلية السياحة والآثار بإخراج فيلم علمي وثائقي عن الدكتور الأنصاري وإنجازاته الأكاديمية والإدارية الخالدة. وأتطلع أن تقوم جمعية التاريخ والآثار التي أنشأها الدكتور الأنصاري بإصدار كتاب عنه يليق بمقامه الأكاديمي والإداري السامقين. كما آمل من الجهات ذات الاختصاص في الدولة إنشاء مركز حضاري وطني للتاريخ والآثار يحمل اسم أ. د. عبد الرحمن الطيب الانصاري- رحمه الله- تكريماً له وعرفاناً بدوره الأكاديمي والإداري الخالد. رحمك الله أبا محمد وجعل مثواك الجنة وجمعنا بك في دار الخلد في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
** **
أستاذ الجيومورفولوجيا والأساليب الكمية بقسم الجغرافيا بجامعة الملك سعود سابقاً - العضو السابق للمجلس الاستشاري العالمي الأعلى للجامعة - المستشار العلمي بمعهد الأمير سلطان لدراسات البيئة والمياه والصحراء