جانبي فروقة
العملاق اللطيف، وهو الحوت القرش يصل وزنه إلى 11 طن وطوله لـ20م، ورغم أن فمه يمتد إلى أكثر من متر إلا أنه لا يعض ولا يمضغ، وخياشيمه تعالج 1.585 جالوناً من الماء في الساعة، ويقتات على الربيان الصغير والعوالق التي ترشح من معالجة الماء عبر خياشيمه. واليوم هذا المخلوق اللطيف مع أترابه من القروش المفترسة الأخرى معرضة لخطر الانقراض جراء الصيد الجائر من أجل زعانفها أو الصيد الخاطئ العرضي بشباك الصيد أو التغير المناخي وحموضة المحيطات أو التلوث البلاستيكي. ويكفينا أن نعرف أن هناك اليوم ما يقارب من 171 تريليون جسيم بلاستيكي تزن 2 مليون طن وتطفو على سطح المحيط، وذلك حسب بحث نشرته مجلة «بلوس، وأن» العلمية وكما يتوقع الخبراء أن 10 % من الأحياء البحرية مهددة اليوم بالانقراض.
المحيطات هي كنزنا الحيوي الذي يسهم بشكل إيجابي في النظام البيئي لكوكبنا، فهي تنتج نصف الأوكسجين في العالم وتمتص ما يزيد عن ثلث الانبعاثات من غاز ثاني أكسيد الكربون الناتجة من حرق الوقود الأحفوري، وهي تخفف من حرارة الأرض، وهي مخزون حيوي يمد المليارات بالغذاء، فقد تجاوز إنتاج العالم من الأسماك في عام 2022م 184 مليون طن، ويعتمد ما يقرب من 3 مليارات شخص على المحيط في حياتهم اليومية وسبل عيشهم. وتقدر الأمم المتحدة قيمة الاقتصاد الأزرق السنوي بحوالي 2.5 تريليون دولار أمريكي، ولو كان المحيط دولة لكان ثامن أكبر اقتصاد في العالم (بعد فرنسا والتي تحتل المركز السابع عالميًا).
حقق العالم في شهر مارس 2023 م إنجازاً دبلوماسياً عملاقاً لطيفاً غير عادي بمصادقة أكثر من 100 دولة في نيويورك على معاهدة لحماية التنوع البيولوجي في أعالي البحار، وتُعرف المعاهدة باسم BBNJ (Biodiversity Beyond National Jurisdiction) (لأنها تتناول التنوع البيولوجي خارج نطاق السلطة القضائية للدول)، وتعد دستورًا للمحيطات العالمية، وهي أهم اتفاقية بيئية بعد اتفاقية باريس للمناخ عام 2015 م، فقد علقت «رينا لي» سفيرة الأمم المتحدة لشؤون المحيطات قائلة «إن السفينة وصلت للشاطئ»، في إشادة لتتويج جهود ما يقرب من عقدين من الدبلوماسية والتوصل لمعاهدة أعالي البحار التي ستنشئ إطارًا شاملاً للحفاظ على الأنواع البحرية والنظم البيئية وإدارتها بشكل مستدام.
وللتوضيح، فإن منطقة أعالي البحار تغطي 64 % من المحيطات (تقريباً نصف مساحة الكوكب)، وهي المنطقة التي تبدأ خارج سلطة المياه الإقليمية للدول المطلة على الميحطات والتي تقع عادة على بعد 370 كم للدول المتاخمة للمحيطات، وكانت الاتفاقية السابقة للأمم المتحدة تغطي فقط 1 % من مساحة أعالي البحار.
إن التنوع البيولوجي والأنظمة البيئية البحرية (حيث يوجد أكثر من مليوني نوع من الأحياء البحرية) مهددة بسبب النشاط البشري المباشر والذي يؤثر بتغير المناخ وارتفاع حرارة المسطحات المائية وزيادة حموضة المحيطات والصيد الجائر والصيد الخاطئ العرضي والتنقيب الفوضوي لاستكشاف المعادن والثروات الباطنية. وحسب ليزا سبير (مديرة البرنامج الدولي للمحيطات التابع لمجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية) فإن المعاهدة الجديدة ستزيد من مرونة المحيطات في مواجهة التهديدات المتزايدة المتعلقة بتغير المناخ، وستمهد الطريق لإنشاء مناطق بحرية محمية على نطاق واسع، فحوالي 30 % من محيطات العالم سيتم حظر أو تقييد الأنشطة البشرية مثل الصيد التجاري والتنقيب عن الغاز والنفط فيها، وسيتم مشاركة الموارد للمشاعات والمسطحات المائية الدولية بطريقة عادلة ومنصفة، وسيتم وضع معايير عالمية لتقييم الأثر البيئي التراكمي على الأنشطة التجارية في هذه المحيطات.
يمكن أن تسهم معاهدة أعالي البحار بتخفيف التوتر الجيوسياسي في القطب الشمالي وبحر الصين الجنوبي وستوفر إطارًا تشاركيًا بين الدول لاستغلال الموارد الجينية من المحيط في البحوث العلمية، فعلي سبيل المثال تم استخراج مركبات من الأسفنج البحري والقروش واستخدامها في صناعة عقاقير لمحاربة كوفيد-19.
إن رفع وعي المجتمعات المدنية لأهمية المحيطات والحياة البحرية صار ضرورة حيوية وليس ترفًا فكريًا، واليوم نجد الكثير من المستهلكين مثلاً باتوا يتجهون لشراء منتجات التونة التي تصرح أنه تم اصطيادها بطريقة الصنارة العادية ( Pole and Line) والتي تعتبر إحدى طرق الصيد المستدامة والانتقائية والتي تستبعد فيها شبكات الصيد العملاقة العشوائية والمسؤولة عن الصيد الجائر بكميات كبيرة وعن صيد وقتل أحياء بحرية مثل السلاحف والقروش، وهذا يعرف بالصيد العرضي أيضاً، ومن ميزات الصيد بالصنارة أنها توظف رجال صيد محليين أكثر وهكذا توفر وظائف أكثر.
إن معاهدة أعالي البحار هي الخطوة الأولى ولكن العبرة في التنفيذ والطريق طويل وشاق، حيث لا بد أن تعمل الدول مع المنظمات الدولية والبيئية على تطوير قوانين داخلية لكل بلد وأطر ونظم لمراقبة وتطوير العمل في المحيطات وتعمل أيضاً على تطوير وعي الشعوب والمستهلكين الذين هم القوة الناعمة والبوصلة الأخلاقية التي تستطيع أن تؤثر بشكل إيجابي وصحي على رحلات الصيد والممرات المائية الآمنة وقوانين التنقيب بما يضمن ديمومة وتجدد ثرواتنا البحرية لأجيالنا القادمة.
** **
- كاتب مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية