د.عبدالله بن موسى الطاير
كان رعي الغنم جزءاً من المهام اليومية، ونادراً ما تجد بيتاً لا أغنام حوله ولا راعي منه، وكان سلوك القطيع يستوقفني، وأتعجب من تصرفات الغنم المسالم عندما يخاف أو يشعر بالبرد، أو يظمأ، ولما يراوده الحنين للعودة إلى مبيته. وأكثر ما كان يشد انتباهي تصرف القطيع عندما يحس ليلاً بالتهديد من ذئب أو كلب غريب أو سارق، حيث نفزع على جفلته لنجده متكوماً على بعضه، لا واحدة منه بمنأى عن المركز، وفي بعض المرات يقتحم الأماكن المخصصة لمبيتنا ويعيث فيها دمارًا بسبب الرعب الذي شعر به، على عكس سلوكه في الأحوال الطبيعية حيث يتمدد في مبيته على رقعة واسعة زرافات ووحداناً.
علمياً تنسحب دلالة مصطلح القطيع على السلوك البشري فيصف «أعدادًا كبيرة من الأشخاص يتصرفون بالطريقة نفسها في الوقت نفسه». غالبًا ما يتسم سلوك القطيع البشري باللاعقلانية؛ فأفعال الناس في بعض المواقف تكون مدفوعة بالعاطفة بدلاً من التفكير في الموقف. ويمكن ملاحظة سلوك القطيع البشري في حالات اضطراب الأمن، أو اشتداد التأزم داخل المجتمع مع تعذر منع الناس من قصد الشوارع والميادين حيث يبدأ تكون نواة السلوك القطيعي، ويتحول الفرد إلى ترس في مكنة الجماعة تصادر منه العقل وتقوده بالعاطفة دونما أدنى تفكير منه فيما يفعل. المظاهرات واسعة النطاق في إسرائيل، وتلك المصحوبة بأعمال الشغب في فرنسا، والإضرابات في بريطانيا، تنتهي معظم هذه التجمعات التي يسيطر عليها الحماس والمشاعر بعنف الغوغاء حتى وإن تشكلت تحت عناوين سلمية حضارية.
ولأن انغلاق التفكير، وسيطرة العاطفة بيئة مواتية للفوضى، فإن الدول تحشد كل إمكاناتها لمنع تشكل مسيرة القطيع وتحول بينه وبين نقاط تجمعه من خلال إجهاض التحركات في مهدها عن طريق العمل الاستخباراتي الأمني الاستباقي، واعتراض الاتصالات ومنع التنسيق بين الرؤوس المدبرة، ذلك لأن الحكومات تدرك أنه عندما يبدأ سلوك القطيع «تتوقف عملية تكوين الرأي والحكم على الفرد لأنه يتابع تلقائيًا حركة المجموعة وسلوكها»، إلا أن عصر الانفجار الاتصالي وبخاصة شبكات التواصل الاجتماعي قد أوجدت ميادين افتراضية قادرة على الالتفاف على المجهود الأمني ووضعه في مأزق اكتمال المهمة بحشد ذوي الفكر المتشابه والدفع بهم إلى الشارع حيث تكون المواجهة صعبة على قوى الأمن، وحيث يتصرف الفرد بمعزل تام عن التفكير في المآلات.
تمامًا كقطيع الأغنام، يُلاحظ سلوك القطيع في البشر عند الشعور بالذعر؛ لا تقلع طائرة إلا بعد أن يشرح المضيفون فيها طرق السلامة، ويوضحون المخارج، ومع ذلك فإن سلوك القطيع هو الذي يحكم المشهد عند وقوع الكارثة، وهو ما لوحظ في كوارث حرائق الطيران تحديدًا حيث يتجه القطيع إلى مخرج واحد ويموتون متكدسين على عتباته بينما مخارج أخرى متاحة لم يقترب منها أحد. يتكر ذلك في حرائق البيوت والمباني الشاهقة، حيث يقوم الأشخاص في كثير من الأحيان بتعليق تفكيرهم الفردي والشعور بالانتماء للقطيع والهروب الجماعي، في تجاهل لإجراءات الإخلاء المنظمة.
الخطاب السياسي القائم اليوم على حدة الاستقطاب يمثل مشكلة معقدة حيث يشكل الرموز محاور لتجميع القطيع بهدف إطلاقه على بعضه البعض أو توجيهه نحو خصم موحد، ولقد لاحظنا بوضوح كيف تصرف القطيع في اقتحام قصور الحكم في سيرلانكا وهشم كل المحرمات لأنه كان مدفوعاً بقوة الكتيبة العاطفية وليس بتفكير الأفراد في العواقب. صحيح أن النتائج تتفاوت بحسب كل موقف وبيئة لكن في نهاية المطاف يحدث القطيع تغييرات جذرية بعضها بكل أسف سالت على إثره أودية من الدماء، ومزق بلدانا كانت متماسكة آمنة، فخلفها قطعان يقود كل منها راع قد يكون معتوها.
تجييش المشاعر ضد أنظمة الحكم أو فئة من المكونات الوطنية أو ضد الأجانب أو أعراق محددة، وتغذية العاطفة بالمعلومات المضللة، والاستثمار المبالغ فيه في الحشد يؤسس لنسق من التفكير المطواع الذي يستجيب للرسائل عاطفياً دون مناقشة، ويتصرف بإحساسه بعيدًا عن المنطق، وقد شهد عالم اليوم الكثير من المذابح البشعة. لم يكن اليهود ليقتلوا بتلك البشاعة في المانيا النازية لولا عقلية القطيع التي أيدت وصفقت وشاركت في المجازر، ولم تكن المجازر لترتكب في البانيا والبوسنة والهرسك وبولندا وراوندا وغيرها بدون تحييد العقل وسطوة القطيع. وإذا كانت مخاطر القطيع في عصر ما قبل تقدم وسائل الاتصال كبيرة فإنها في هذا العصر أكثر تدميرًا وكفيلة بتمزيق المجتمعات وتدمير المنجزات الوطنية والبشرية، وهي أسرع السبل لإرسال المجتمعات مئات السنين إلى الماضي.