مشعل الحارثي
بعد أصدق التهاني وأطيب الأماني بحلول هذه الأيام الطيبات المباركات شهر رمضان وخروجاً عن المواعظ والعظات وتعداد فضائل ومعاني وعطايا هذا الشهر العظيم التي لم تعد خافية على الكثيرين بعد أن أسهب العلماء والفقهاء والدعاة في بيان تلك المعاني وما فيه من مجاهدة روحية وتغلب على سطوة الغريزة والتخفف من لوثات البدن وأدرانه، وتحرير الروح من سجنها الدنيوي وكبح الملذات والشهوات والانطلاق إلى فضاءات أوسع تسمو فيها النفس بالطاعات وتكثر فيه التجليات والنفحات ويعمها التراحم والرحمات والبر وكثرة العطايا والحسنات.
ومن ذلك فقد رأيت أن أشير إلى جانب من جوانب بركات ومعجزات الخالق العظيم في هذا الشهر الكريم التي لا تعد ولا تحصى وخاصة القوانين الكونية الثابتة التي وضعها القدير جل جلاله فيما يتعلق بالوقت والحسابات الفلكية التي يتم على ضوئها معرفة الزمن وتحديد مواعيد الصلوات ودخول شهري رمضان والحج، والتي أشار إليها كتاب الله المبين بقوله جل في علاه {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الآية 5 من سورة الرحمن)، أي بمعنى الحساب الدقيق غير القابل للخطأ المرتكز على حركة الشمس والقمر اللذين هما من صنع الخالق العليم.
وقد اجتهد العلماء قديماً وحديثاً وعبر العصور وسخروا العلم لتخطي هذه المشكلة بدءاً من اختراع المزولة الشمسية، فالساعة الرملية، فالساعة الذرية، فالساعة الرقمية، فالساعة الكونية وتأكدوا بأن الوقت الحقيقي لا تمثله إلا ساعات المراصد النجمية لا الشمسية.
قلت والناس يرقبون هلالاً
يشبه الصب من نحافة جسمه
من يكن صائماً فذا رمضان
خط بالنور للورى أول اسمه
ومن المعتاد في صيامنا أن الصوم يبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس لمدة شهر كامل وفقاً للتقويم الهجري والرؤية القمرية لا التقويم الميلادي أو القبطي والرؤية الشمسية، ولعل من أهم منافع هذا الاختلاف وفق التاريخ الهجري أن يأتي رمضان إلينا في أوقات مختلفة شتاءً أو ربيعاً أو صيفاً أو خريفاً بمعنى أن المسلم يصوم رمضان في مناخات مختلفة طوال الأعوام وهو ما يكسب جسم المسلم القوة والتحمل والتعود على الصيام في مختلف المناخات والتقلبات الفصلية وبذلك يكون المسلمون مختلفين عن أولئك الذين يصومون كل عام الوقت نفسه والمناخ ذاته والظروف الجوية نفسها فتكون فائدتهم من الصوم أقل بكثير من المسلمين.
ومن المعلوم أيضاً أن الأديان الأخرى لهم صومهم وطريقتهم وأسلوبهم في الصيام وهناك أيضاً فرق آخر ما بين صوم المسلم وغير المسلم فقد حددت الحكمة الإلهية في تحديد مواعيد وأوقات ساعات الصوم ما بين (14 -17) ساعة يومياً وهي فترة مناسبة حسب الرؤية الطبية للحصول على الأثر المطلوب بالتعود على كمية معينة من الطعام والشراب تكفي الفرد للقيام بواجباته بشكل طبيعي بما يمتلكه من مخزون جسدي من الطاقة والسوائل حيث يبيح الإسلام للصائم بعد هذا المجهود تناول كافة أنواع الطعام التي يحتاجها الجسم ما عدا المحرمات، وبخلاف صوم غير المسلمين كالصوم الكبير لدى النصارى الذي يمتد لمدة (55) يوماً يعتمدون فيه على المواد الغذائية ذات الأصل النباتي فقط ويمتنعون عن أكل كل ما فيه روح وبذلك هم يحرمون أنفسهم من عناصر غذائية مهمة للجسم كالبروتين الحيواني المهم والضروري لبناء الأنسجة الحيوية والهرمونات والإنزيمات والتي لا تعوضها الأغذية النباتية.
أما الأمر الثاني فهو يتعلق بالفجر الذي أقسم المولى عز وجل به في سورة مستقلة وهي سورة الفجر وقال في آيتها الأولى: {وَالْفَجْرِ} لأهميته في الأيام العادية لإقامة الصلوات وتحديد دخول شهر ذي الحجة وشهر رمضان المبارك حيث إن الصوم يبدأ من لحظة الفجر وهو ما نصت عليه الآية 187 من سورة البقرة في قوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}، والفجر هنا فجران فجر صادق وفجر كاذب كما أشار إليه الحديث النبوي الشريف (الفجر فجران فالذي كأنه ذنب السرحان لا يحرم شيئاً وإنما هو المستطير الذي يأخذ الأفق فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام)، وقد جاء في تفسير ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (هما فجران فأما الذي يسطع في السماء فلا يحل ولا يحرم شيئاً، ولكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشرب والطعام)، وأوضحت الدراسات الفلكية لهذه الظاهرة بأن الفجر الصادق يكون محسوباً توقيته على أساس الموقع الجغرافي للشمس الظاهرية أسفل الأفق المرئي بمقدار (18) درجة، أما الفجر الكاذب فهو قد يحدث قبل هذا الوقت بحوالي ساعة أو أكثر، ولكنه لابد أن يكون بعد منتصف الليل ويحدث ذلك بسبب بعثرة ضوء الشمس وبعدها عن خط الشفق الفلكي بحوالي (20) درجة، بينما يظهر الفجر الكاذب بصفة خاصة عند اشتداد الرطوبة صيفاً،كما أنه يسهل تمييزه بالعين المجردة حيث يكون شكله كذيل الذئب في وضع مستطير في منتصف السماء، بينما يكون الفجر الصادق مماساً بكل دقة لدائرة الأفق المرئي بمعنى أن الفجر الصادق يأخذ الوضع الأفقي بينما الفجر الكاذب يأخذ الوضع العامودي طولاً في كبد السماء، كما تحدث علماء الفلك عن حالة ثالثة واحتمال وجود فجر ثالث سرمدي في منطقة ما بين القطبين الشمالي والجنوبي خاصة في خطوط العرض العليا بعد خط عرض (66) درجة شمالاً أو جنوباً، وقد اجتهد العلماء والفقهاء في مثل هذه الحالة بأن يكون احتساب أوقات الصلاة والعبادات الأخرى حسب توقيت مكة المكرمة أو توقيت أقرب دولة إسلامية، ثم كانت هناك حالة رابعة تتعلق بكيفية أداء العبادات للمسلمين من رواد الفضاء في مركباتهم الفضائية وقد حسمها سماحة مفتي البلاد السعودية الراحل الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله وسماحة المفتي الحالي الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ أمد الله في عمره الأحكام الشرعية في ذلك في رحلة أل رائد عربي مسلم للفضاء سمو الأمير سلطان بن سلمان وأبانوا بأن حساب الأوقات يكون من المكان الذي انطلقت منه الرحلة وكانت ولاية فلوريدا الأمريكية منطلق هذه الرحلة، وكان سموه صائماً وعندما حان وقت الإفطار أفطر سموه حسب غروب الشمس في تلك الولاية، وكان يتم الوضوء بالمسح بالفوط المبلولة لانعدام الجاذبية في الفضاء، أعاننا الله وإياكم على صيام هذا الشهر المبارك ولا حرمنا من خيراته ونفحاته ورضا الرب ورحماته وغفرانه، وكل عام وأنتم إلى الله أقرب.