نظم كرسي غازي القصيبي للدراسات التنموية والثقافية في جامعة اليمامة محاضرة بعنوان: «المرأة في الرواية العراقية: صور متعددة ومشاهد إنسانية» لسعادة الأستاذة الدكتورة لاهاي الدعمي أستاذ علم الاجتماع في جامعة بغداد يوم الثلاثاء 21 مارس 2023م، وقامت بإدارة اللقاء سعادة د. عمرة الرشيدي. وتعدّ الدكتورة لاهاي الدعمي من العلماء البارزين في علم الاجتماع الثقافي داخل العراق وخارجه، وتبين سيرتها الذاتية الغنية عن منجزاتها العلمية من خلال مؤلفاتها الغزيرة باللغتين العربية والإنجليزية وتدريسها في جامعة يوتا التي حصلت منها على درجتي الماجستير والدكتوراه في الولايات المتحدة الأمريكية، ومشاركاتها المتنوعة في المؤتمرات والندوات المحلية والخارجية، وتعتبر من أهم المراجع في هذا الحقل من علم الاجتماع في العالم العربي.
ذكرت المحاضِرة في البداية أنّ هذه المحاضرة جزء من مشروع علمي أوسع صدراً بصيغة كتاب عن دار الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة العراقية بعنوان «من الأدب إلى العلم: دراسة في علم اجتماع القصة والرواية العراقية للفترة 1920 - 2020»، ضمن سلسلة «مئوية العراق» عام 2021. اشتملت المحاضرة على ثلاثة محاور رئيسية: الإطار النظري والخلفية العامة؛ المواقف والآراء للكتّاب المشمولين؛ ثم الخاتمة. أوضحت المحاضِرة أنّه يعاب على علم الاجتماع الحديث تمسكه بقضايا أصبحت في سياق التقليد الأكاديمي المشبع بحثاً كما في الاستقرار والنظام والتغير والصراع والفرد والجماعة والعلاقة فيما بينهما. وهذا ما توجب على المشتغلين في علم الاجتماع البحث عن صيغ جديدة ومصادر بحث مختلفة لتنشيطه والعودة به إلى مريديه من الأفراد والجماعات المعنية. وتأتي هذه المساهمة في هذا السياق خاصة وأنّ المجتمعات العربية تزخر بإنتاج أدبي وفني غزير. ولمّا كان الأدباء والروائيون يتحركون بحرية أوسع بسبب عدم تمسكهم بمنهجيات صارمة كما يفعل الباحث الاجتماعي فقد صاروا مقصداً مهماً وملهماً لعلماء الاجتماع.
شملت الدراسة الأصلية التي استندت إليها المحاضرة عينة مختارة من كتّاب القصة والرواية العراقية عبر مائة عام وهم: محمود أحمد السيد، عبد الحق فاضل، غائب طعمة فرمان، فؤاد التكرلي، إنعام كاججي، فلاح رحيم، وجاسم المطير. اعتمد الإطار النظري إلى أفكار عامة قال بها علماء الاجتماع الكلاسيكيون والمحدثون ممن أشاروا إلى الأدب. فقد اعتبر ماركس الثقافة والأدب جزءاً من البنى الفوقية للمجتمع، ونتيجة للبنى التحتية السائدة على صعيد الاقتصاد والسياسة. وبدا أنّ هذه الفكرة لا تفسر أعمال هؤلاء الكتّاب والروائيين ممن لم يكونوا متصالحين مع القوى التحتية للمجتمع وكتبوا بصورة نقدية غير متوافقة مع الأنظمة التي شملوها بأعمالهم؛ نظر فرويد إلى القصة والرواية والأدب عموماً على أنّه نوع من الحلم الذي يظهر في الوعي الباطن ويتجلى بصيغة مكتوبة؛ فيما نظر ماكس فيبر إلى الأدب باعتباره عاملاً من عوامل التماسك الاجتماعي، مثله مثل الدين والإعلام الجماهيري. وهنا أيضاً نعود إلى النزعة النقدية التي كتبت فيه هذه القصص والروايات من حيث إنها لم تشجع على دعم السائد والمألوف وإنما حثت بصورة غير مباشرة على التمرد عليه ومحاولة إصلاحه؛ اهتم كارل مانهايم بدور المثقف والعلاقة الجدلية المتكافئة من حيث التأثير المتبادل بين الفكر والتشكيلات الاجتماعية؛ نظر إيميل دوركهايم إلى الأدب باعتباره ابتكاراً اجتماعياً يعبر عما يتطلع إليه المجتمع من خلال ما أسماه «التمثلات الجمعية»؛ أشار سي رايت ملز صاحب كتاب «الخيال السوسيولوجي» إلى البحث عن العام والشائع وليس الخاص والاستثنائي؛ وشبّه ارفنغ گوفمان المجتمع بالمسرح، والفرد بالممثل في كتابه، «التحليلات الدرامية»؛ وكان لورينسون وسينجوود اقترحا مقاربتين في مجال علم اجتماع الأدب تتمثل الأولى بفهم المجتمع من خلال ما هو خاص وفردي. وتركز المقاربة الثانية على المعنى الجوهري للأفكار الاجتماعية من خلال الأدب. وجه علي الوردي بكتابيه: «أسطورة الأدب الرفيع»، وكتاب «وعاظ السلاطين»، نقداً حاداً للأدباء والكتاّب والشعراء بسبب مواقفهم الموالية للحكام على الضد من إرادة عامة الناس.
عرضت المحاضِرة في المحور الثاني لعينات مختارة من مواقف هؤلاء الكتّاب والروائيين وآرائهم تجاه المرأة كما ظهر ذلك في أعمالهم المدروسة. فقد اهتم (محمود أحمد السيد) (1903 - 1937) الذي نشر أول قصصه القصيرة في عشرينيات القرن الماضي بالمرأة وتعاطف معها وتأسى لها بقدر تعلق الأمر بحريتها في اختيار القرين. كان (السيد) ناقداً لأولئك الرجال الذين خذلوا امرأة أحبتهم وأحبوها أو الآباء الذين تعاملوا معها كما لو كانت قطعة أثاث يملكون حق التصرف بها واتخاذ القرارات بشأن حياتها الخاصة كما في حكاية (كستور وجينارام) التي جاءت بعنوان «في سبيل الزواج» (1921). لعل (السيد) أول من خاض في مفهوم «العنف ضد المرأة»، من خلال قصته، «النكبات»، واصفاً ضحايا العنف الأسري بـ»الضعيفات». وقدم لنماذج أخرى عانت الظلم وحتى القتل بسبب سيادة المفاهيم التقليدية وسوء الفهم وشيوع الظنة. كانت تلك أولى المحاولات والتي ظهرت قوية وواضحة ولكنها لم تحظ بما تستحق من الاهتمام.
أما (عبد الحق فاضل) (1911 - 1992) فقد اهتم بالصورة المتخيلة للمجتمع المتكافئ الذي يختلط فيه الرجال بالنساء على نحو مسؤول وبمستوى طبقي متكافئ والتزام قطعي بالمقاييس الأخلاقية السائدة وبخاصة ما يتعلق منها بمفاهيم الشرف والعزة والكرامة. قدم في قصة «مجنونان» (1936) صورة لمجتمع بغدادي ناهض يلتقي فيه الشباب بالشابات ممن لا يكتفون بوظائفهم المهنية بل يساهمون في الجدل الاجتماعي في قضايا مهمة عن طريق نشر المقالات في الصحف المحلية. تنشأ علاقة مودة بين المحامي (صادق شكري) والكاتبة التحررية (صفية). قصة تسلط الضوء على إرهاصات جيل شبابي مديني يصارع من أجل الخروج إلى ميدان الحداثة الذي كان بدأ تواً آنذاك.
يوصف (غائب طعمة فرمان) (1927 - 1990) بأنّه أول الروائيين العراقيين الجادين ممن قدم قصصاً قصيرة وروايات طويلة أخذ بعضها طريقه إلى المسرح والتلفزيون. وصفته المحاضِرة بأنه «المؤرخ الأديب»، حيث سجل لواقع المجتمع العراقي عبر عقود متتالية من الزمن ابتداءً من الأربعينيات حتى السبعينيات: النخلة والجيران، القربان، المخاض، المركب، إلخ.
حظيت المرأة باهتمام الكاتب حيث أسند دور البطولة في واحدة من أشهر رواياته: «النخلة والجيران» إلى امرأة أطلق عليها اسم (سليمة الخبازة). مثلت هذه المرأة في روايته نموذج المرأة المستضعفة التي وضعت بيضها في سلة واحدة. تظهر في الرواية أيضاً صورة الفتاة الشابة التي تهرب من عائلتها لتفادي زواج غير مرغوب به من رجل يكبرها سناً لتقع في حبائل المدينة التي تقودها إلى أنْ تكون من بنات الهوى. وهذه (رديفة) التي يغيظها اهتمام زوجها الذي يعمل سائساً بحصانه فتسأله في لحظة توسل لاهتمامه وعواطفه: من تحب أكثر، أنا أم الحصان؟ يتناول فرمان في رواية «القربان» حياة الصبية (مظلومة) التي تعاني من بخل وتسلط والدها، «دبش»، وتهجمه المستمر على والدتها المتوفاة مما يقع تحت عنوان «العنف الممارس ضد القاصرات». وعلى هامش حياة (مظلومة)، تظهر شخصية (زنوبة) المختلة لتعطي صورة عما يمكن أنْ يلحق بذوي الاحتياجات الخاصة، أو ما يعرف اليوم، بـ»ذوي الهمم». تعلقت (زنوبة) بـ(ياسر) العامل في مقهى (دبش) ولكنها تقع ضحية (حساني) الأبله لتقرر حرق جسدها بعد صب الزيت على رأسها وإشعال النار فيه. حالة من حالات الانتحار التي سجلت على أنّها «قضاء وقدر».
يذكر (فرمان) في رواية «المخاض»، كيف أنّ المقاييس الاجتماعية تغيرت بعد سقوط النظام الملكي عام 1958 وظهور النظام الجمهوري. اكتسب العسكر مكانة اجتماعية أعلى وصار حلم الفتاة المتعلمة والميسورة أنْ تقترن بـ»ضابط». وهو خيار صار فيما بعد خلال فترة الحرب العراقية - الإيرانية (1980-1988) غير مرغوب فيه نظراً للمصير الحتمي الذي ابتلي فيه هؤلاء. يسجل (فرمان) في الرواية الرابعة التي تمت مراجعتها هنا «المركب» لمرحلة تنامي الاستبداد السياسي واستخدام طرق «إساءة السمعة» وبخاصة للنساء اللواتي يُشك في ولائهن السياسي. كان ذلك مطلع سبعينيات القرن الماضي حيث أخذت الرواية مكانها.
أما فؤاد التكرلي (1927 - 2008) وهو الروائي الذي عمل قاضياً فقد أظهر الكثير من الاهتمام بالعلاقات الإنسانية بين الرجال والنساء مركزاً على موضوع الحب مما عرضه لانتقادات حادة. يعطي من خلال روايته «المسرات والأوجاع»، صورة مشخصنة لتطور المجتمع العراقي عبر ما يقرب من مائة عام. يتعقب التاريخ الاجتماعي للعراق من خلال حياة عائلة (عبد المولى) التي بدأت في حي من أحياء كركوك الفقيرة وصولاً إلى بغداد حيث فرص العمل للتقدم والغنى، ومن ثم الحرب العراقية الإيرانية التي خطفت (غسان) من خطيبته الموعودة (فتحية). ويكشف من خلال هذا المشهد عن جانب مهم مما صنعته الحرب على الصعيد الاجتماعي. يتعرض (فؤاد التكرلي) في الرواية الرئيسية الأخرى «الرجع البعيد»، لقضية ظلت بعيدة عن البحث العلمي وهي التي تتعلق بمفهوم «العذرية» و»زنا المحارم»، من خلال ما تعرضت له (منيرة)، من ابن أختها وانكشاف ذلك أمام عريسها (مدحت) ليلة الزفاف. وهذا ما أدى إلى صدمة نفسية واجتماعية حادة للعريس الذي عاف عروسته دون أنْ يعطيها فرصة لتوضيح موقفها. حفلت قصص (التكرلي) الأخرى بأكثر من مثل على معاناة النساء ومقالبهن أيضاً. ففي قصة «العيون الخضر» (1950) يتحدث عن الفقر والمجاعات التي أدت بكثير من الفتيات الصغيرات إلى طريق البغاء وهو الطريق الذي تفقد فيه الأنثى شعورها بالكرامة والكبرياء. وينسب في قصة «الآخرون» (1953) دور البطولة لامرأة تقود تظاهرة وتساهم بتعزيز معنويات المتظاهرين ممن سعت الشرطة إلى تفريقهم. يتناول في قصة «الطريق إلى المدينة» (1953) جريمة قتل يقوم بها أخ لأخته البلهاء (حمدية)، بتحريض من أمه وخالته بداعي «غسل العار». وتناول هذه الجريمة أيضاً في قصة «القنديل المنطفئ» (1954) والتي تذهب ضحيتها بنت في الثالثة عشرة من العمر بعد أنْ شك الزوج (جبار) بعذريتها ليلة الزفاف. يتفق الأب والأم بعد تلقي الحكاية من أبو العريس (أبو جبار)، على تكليف قاتل محترف للتخلص منها. وفي قصة «غرباء» (1962) يتناول فشل الزيجات بنساء أوروبيات نتيجة انعدام التوافق الثقافي فيما يتعلق بمفهوم الرجل العراقي لصورة الزوجة وفقاً لمقاييسه التقليدية. وفي قصة «الغراب» (1962) يتناول جريمة قتل يقوم بها زوج بحق زوجته بسبب رصدها له لتورطه بعلاقة محرمة مع زوجة أخيه (فضيلة) ويعلق الروائي، «يريد قتلها، يريد إفناء شاهد انحطاطه». وكذلك يفعل في قصة «التنور» (1972) حيثيقوم نائب الضابط بقتل زوجة أخيه (فرحة)، بتحريض من أخته، ابنة عم الضحية بحجة أنّها استقدمت عشيقها إلى غرفتها بغياب زوجها. وفي قصة «التباس» (1990) يقدم صورة المرأة المسالمة المهادنة التي تتحمل استفزازات زوجها وتشكيكه بعلميتها بسبب أنّ لديها شهادة عليا في علم التاريخ. تشهد ساعات احتضاره وتودعه بحزن وألم. وفي قصة «الحائط والحكايات الحزينة» (1998) يحكي عن (عبد السلام) الذي قتل ابنته (هيفاء)، ولم يبالِ برحيل أمها بعد ذلك بأشهر نتيجة وشاية تنال من شرف البنت. ولكنه لا ينج من عذاب الضمير حتى يستسلم للانتحار.
أسندت إنعام كاججي (1952 - ) وهي الروائية الوحيدة التي شملت في هذه الدراسة دور البطولة إلى نساء خدمن المجتمع ولكنهن عانين من ظلمه وتجبره. تحكي في رواية «طشاري» (2013) عن الاعتداء الذي طال أعضاء الجماعات الدينية الصغيرة مثل المسيحيين كما في حياة الطبيبة (وردية شماس)، التي كانت من أوائل من تخرج من كلية الطب في بغداد في أربعينيات القرن الماضي. تشهد (وردية) تغير الأنظمة السياسية في العراق وصولاً إلى احتلال الكويت وفترة الحصار الأممي وتحول الغالبية العظمى إلى جماعات مفقرة. تنقلب حياة الطبيبة رأساً على عقب بعد حرب 2003 وبلوغها سن التقاعد حيث تجد نفسها كامرأة مسيحية غير مرحب بها بسبب موجات العنف والاضطرابات التي عمت البلاد آنذاك. وهذا ما أدى بها إلى أنْ تهجر العراق لتخبر الترحال والافتراق عن البيت والمال والأولاد. وفي رواية «النبيذة»، تحكي لتاريخ العراق الاجتماعي من خلال شخصية (تاج الملوك)، وهي عراقية من أصول إيرانية من جهة الأم عن الفرصة التي أتيحت لها لتكون صحافية وتحظى بدعم وتشجيع الوصي ورئيس الوزراء آنذاك حتى تجد نفسها منهمكة بالمد الوطني الذي كان يطالب بحرية الصحافة والتحرر من الهيمنة العسكرية البريطانية. وفي رواية «سواقي القلوب»، تنقل الروائية كيف إنّ (سارة) التي حضرت إلى باريس للقيام بعملية تحول جنسي من ذكر إلى أنثى وجدت مخنوقة حتى الموت بسبب عدم تعاونها مع النظام للتجسس على بعض العراقيين المقيمين هناك. وتختتم (كاججي) برواية «الحفيدة الأمريكية»، التي تحكي فيها من خلال مجندة عراقية عملت في صفوف الجيش الأمريكي عن ظروف الاحتلال عام 2003 حيث استخدم الأمريكيون العراقيين الهاربين من النظام قبل وبعد احتلال الكويت ليعملوا مترجمين ومساعدين.
على أن (فلاح رحيم) (1956 - ) يهتم بفترة السبعينيات ويسجل نقداً ذاتياً للطلبة الذكور ممن يعجبون بزميلاتهم ولكنهم عندما يقررون الزواج فإنهم يلوذون بأمهاتهم وأخواتهم. تأخذ المضايقات السياسية شكل الضغط على الطالبات بحجة عدم الالتزام بالزي الموحد أو استخدام مساحيق التجميل. يحكي عن ظروف الطلبة في السبعينيات ونشوء علاقة حب من طرف واحد نتيجة التفاوت الطبقي والتباين في الموقف السياسي. وأخيراً يأتي جاسم المطير (1934 - 2022) صاحب رواية «داعشتاين: مخلوق السعير والمصير» ليعطي دور البطولة فيها للراوية (شهرزاد). رواية من صنع الخيال يقدم فيها نظرته لما حدث عشية احتلال الموصل. اختتمت المحاضرة بالتأكيد على أهمية الأدب باعتباره مصدراً للنظر والفهم وليس لمتعة القراءة الجمالية فحسب.
وحظيت المحاضرة بالتفاعل من الحضور والتعليقات التي أثنت على هذا الجهد المتميز للمحاضرة وناقشت قضايا مهمة مثل علاقة الرواية بالواقع وتجربة الكاتب والمتغيرات الاجتماعية في العراق خلال فترة الدراسة ودورها في صياغة قيم ثقافية انعكست تمثلاتها من خلال الأعمال الأدبية وخاصة الرواية والقصة.