د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
جاء شهر رمضان ينسكبُ على أرواحنا كالمُزْن ويحتضنُ الشهر الفضيل نفوسنا كالأرائك، وهو ركن من أركان الإسلام الراسخة بأمر الله وليس فكرة دنيوية ينبغي أن نكد الذهن لاستخلاصها قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183).
جاء رمضان يطرق ذاكرة الصائمين ليذكروا عهودهم مع رمضان وطقوس استقباله وإعمار لياليه بالعبادات؛ يعانق ذلك السلوك الإنساني الأطيب؛ جاء رمضان ووطننا بخير وأرضه آمنة مخضرة، وحضارته في أوجها ؛ جاء رمضان وقيادتنا في علياء العالم حكمة وحنكة وقوة وبذلاً وعطاءً؛ وجاء رمضان ومساجدنا تزيّنت لاستقبال الصائمين, وازدانت مواقع التواصل بالتهاني حروفاً تكتسي وتزهو, وترتحل إلى رب العباد أن يبلغنا ثوابه وتمامه.
جاء رمضان وحدودنا تطوقها أيادٍ باذلة قوية تحب الوطن وتعشقه ليبقى مهوى أفئدة المسلمين...
نستشرف في شهر رمضان عذوبة العبادة ونميرُ مائها, وليالي رمضان طرائق فائزة, وأيامه سباق محمود لحيازة الأثمان الغالية من أصدافه...
شهر رمضان عبادة وإصلاح وصلاح ومراجعة للأوراق، ورمضان هدى للناس وبينات من الهدى؛ ورمضان تسامٍ في الخلق, ودعوة إلى التآزر والتعاون والرحمة...
شهر رمضان شهر القوة والعمل؛ وشهر الانتصارات الإسلامية الخالدة، شهر رمضان وسمُ اجتماع للمسلمين نتذكره ونعيشه كل عام؛ ونعي أن ما يجمع المسلمين أكثر مما يفرقهم, وما يوحّد قلوبهم أكبر مما يباعد فيما بينها.
ويتقاطر العقل يقيناً وتزدان به صحائف رمضان, ويعبق الشعور فخراً بأن منّ الله علينا والمسلمين في كل أنحاء المعمورة ببلوغ الشهر وصيامه؛ وتلكم نفوس المسلمين تفيض صفاءً ونقاءً في هذه الأيام المباركة...
وللعبادات فروض وواجبات, وللصيام في شرائعه مثلها, وهذا في إهاب المسلمين وعقولهم, وعند ذاك فإن الأرواح المضيئة تلاقي آفاق العالم لتتحدث عن المسلم في صومه, حيث تواشج المشاعر بين المؤمنين والبذل والصدقة, وإحياء السنن, وتفطير الصائمين, وتبادل الصلة والتواصل؛ وتنفق الساعات في البر والعبادة وتلاوة القرآن.
وحسبنا روعة وجمالية أن الله سبحانه وتعالى أحاط شهر الصوم بالهدى، وقرنه بالفرقان، وفيه توجيه للمؤمنين أن يحسنوا في أفعالهم وأقوالهم, وأن يأمروا بالمعروف أينما كان موقعه وحجمه, وأن تصبح العبادة يقيناً واتقاناً تملأ مرتكزات العمل ودوائره ومحيطاته, وأن يكون الشهر الفضيل سبيلاً للتعاون والتواصل بين المسلمين في بلدانهم المختلفة وداخل محيط الوطن الواحد.
شهر رمضان مصنع وافر لطاقات النقاء الروحي, تصفو به النفس من الحسد والوجدان من الغل؛ وشهر رمضان درجات ثابتة في معراج العدل أيضاً، فهذه إشراقات رمضانية باذخة بكل الروحانية, تشرق شموسها على المسلمين, ليكونوا أخوة يشدّ بعضهم بعضاً, ويقفوا صفاً واحداً ضد المعتدي, ويمدوا خمائل السلام فوق أراضي الأوطان, فهم كما قال اللطيف الخبير {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} (آل عمران: 110)
فشهر الصيام يمنح المؤمنين طاقات استثنائية لها وجوه كثيرة يُشترى بها لقاؤه عز وجل, وتنتظر مواعيده كل عام بأمنيات بمسلم يبني من خشوعه عقوداً من الدرر أثمنها البر والإحسان والإيمان العميق.