عادل علي جودة
كانت الساعة الثانية بعد ظهر يوم السبت 18 مارس 2023م، بينما كنت أجلس في السيارة أمام صالون الحلاقة منتظرًا دوري، فإذا بسيارة أخرى تتوقف خلفي مباشرة، والواقع أنني لم أشعر بشيء من الضيق لكون السيارة ستعيق تحركي حين الانتهاء من الحلاقة هامسًا داخلي لعله توقُّف مؤقت لن يستغرق الكثير من الوقت، وقد تأكد لي ذلك على الفور؛ إذ خرج منها شابان سعوديّان، واتجها نحو «محل البقالة» المجاور ودخلاه لوقت قصير ثم خرجا منه دون شراء أي شيء، ثم اتجها إلى «محل كي الملابس» الملاصق ودخلاه، وفي الأثناء أشار إليّ الحلاق - الشاب الخلوق «طارق» - بيده: «أن تفضل»، فأطفأت محرك السيارة ودخلت الصالون متجهًا إلى كرسي الحلاقة، وقبيل أن أصل الكرسي دخل الشابان معًا، وبعد تحية السلام قال أحدهما للآخر: «هذا هو الحلاق»، فشعرت أن هناك شيئًا ما يتسم بالأهمية، فتوقفت، وهكذا شاء الله سبحانه وتعالى أن أكون شاهدًا على موقف لافت لهذا الشاب الوقور وهو يوجه حديثه إلى الحلاق حاملًا بيدٍ هاتفه الجوال، وباليد الأخرى حافظة نقود:
الشاب: مشيرًا إلى شاشة هاتفه الجوال؛ أخي الكريم: هل يأتي هنا صاحب هذه الصورة للحلاقة؟
الحلاق: نعم، وقد زارني قبل بضعة أيام.
الشاب: هل لك عليه دين؟
الحلاق: لا، ثم أردف بحزن عميق؛ هل مات؟
الشاب: - وهو يفتح حافظة النقود - نعم، وأرجوك؛ تذكّر جيدًّا إن كان لك عليه دين؟
الحلاق: رحمه الله وعظم أجرك، لا لا، ليس لي عليه دين.
الشاب: أرجو أن أسمع منك مسامحته.
الحلاق: كما قلت لك: ليس لي عليه أي دين، ومع ذلك إني سامحته.
حينئذٍ وجدتني أهامس الشاب معزيَّا وسائلًا الله سبحانه وتعالى أن يسبغ على والده شآبيب رحمته، ومسجلًا له جل التقدير والاحترام لهذا المشهد العظيم الذي جسده بروحانيته تجاه والده.
ولمّا خرج الشابان تحسست جوانحي تخرج معهما، فانهالت عليَّ تساؤلاتي مصحوبة بدعائي لهذا الشاب بالمزيد من التقى، وأن يجزيه الله عن والده خير الجزاء، ثم سرت في أوردتي معالم رجاءٍ ما شعرت بها من قبل؛ «ألا ليت شباب الأمة مثل هذا الشاب»، لكنها ليت التمني في خضم واقع لا أراه يبشر بخير.
وهنا وجدتني أهتف بنصيحة من القلب إلى كل شاب أن؛ الله الله في أبيك، الله الله في بره؛ ليس فقط في حياته، إنما أيضًا بعد مماته، فإذا كان البر في حياته معلومًا لديك، ألا فاعلم أن برَّك به بعد مماته يبدأ بهذه الخطوة التي خطاها هذا الشاب الملتزم، عليك البدء مباشرة في قضاء الدَّيْن الذي تحمَّله أبوك لأجلك؛ لأجل مأكلك، ومشربك، وملبسك، وتعليمك، وليتك تتحسس حجم استحيائه من الآخرين وهو يمد إليهم يد الاستدانة، ثم ليتك تتحسس حجم انكساره أمام نفسه وأمام دائنيه وهو يحتجب عنهم بسبب عجزه عن سداد دينه.
نعم أيها الشاب؛ هكذا هو الدَّيْن؛ همّ يلازم المدين ليلًا، ومذلة تلاحقه نهارًا، وارتهان - بعد مماته - يحول دون دخوله الجنة، ولعلك مررت بالكثير من الأحاديث التي شدد عليها حبيبنا وساكن أفئدتنا نبي الرحمة محمد بن عبدالله؛ صلى الله عليه وسلم، ومنها الحديث الذي رواه النسائي عن محمد بن عبدالله بن جحش إذ قال: «كنَّا جلوسًا عندَ رسولِ اللهِ؛ صلى اللهُ عليهِ وسلم، فرَفَعَ رأسَهُ إلى السماءِ، ثم وضَعَ راحتَه على جبهتِه، ثم قال: سبحانَ اللهِ! ماذا نزَلَ مِن التَشْدِيدِ؟ فسَكَتْنَا، وفَزِعْنَا، فلمَّا كان مِن الغدِ سأَلْتُه: يا رسولَ اللهِ، ما هذا التشديدُ الذي نزَلَ؟ فقال: والذي نفسي بيدِه، لو أنّ رجلًا قُتِلَ في سبيلِ اللهِ، ثم أُحْيِيَ ثم قُتِلَ، ثم أُحْيِيَ، ثم قُتِلَ، وعليه دَيْنٌ، ما دخَلَ الجنةَ حتى يُقْضَى عنه دَيْنُه»[4605]. والحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة قال؛ قال رسول الله؛ صلى الله عليه وسلم: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عْنْه» [1078].
ألا فاعلم أيها الشاب أن برَّكَ بأبيك بعد مماته لا يبلغ مرادَه بدمعةِ عينٍ تسيلُ على الخد، ولا بصورَةٍ توضع له عبر وسائل التواصل الاجتماعي بمناسبة مرور سبعة أيام على وفاته، أو أربعين يومًا، أو سنة، إنما باستشعار المسؤولية العظيمة التي أثقلت كاهله من أجلك أنت وإخوتك جراء ذلك الدَّيْن، وبالسعي المخلص والجاد لقضائه ليس فقط فورًا ودونما تأخير، إنما قبل أن يوارى جثمانه الثرى؛ وأيضًا ليس هذا فحسب، بل أنت مأمور بالصلاة عليه، والاستغفار له، وإنفاذ عهوده، ووصل أرحامه وهم أرحامك، وإكرام أصدقائه، والتصدق عنه، وفي الوقت نفسه كن على يقين أن كل ذلك لا يوازي ذرة من فضله عليك. ألا هل بلغت... اللهم فاشهد.
وأما وصيتي لك أيها الأب؛ فإياك أن تكبل كيانك بالدَّيْن، إياك أن تتجه نحو الاستدانة إلا لظروف قاهرة، ولكن شريطة ألا تضع في الاعتبار أن أبناءك سيتكفلون بالسداد عنك بعد وفاتك، إنما تكون على يقين، أو في أقل تقدير على نسبة عالية من حسن الظن، أنك قادر على قضاء دينك بنفسك، وحينئذٍ فسيعينك الله على السداد، أو يسخر لك، لقوله صلوات الله وسلامه عليه «مَنْ أخذَ أموالَ النّاسِ يريدُ أداءَها أدَّى الله عنه، ومَنْ أخذَ يريدُ إتلافَها أتلَفَهُ الله» [2387]؛ ألا هل بلغت... اللهم فاشهد.
اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزَن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وقهر الرجال.