«متسوِّق سِريّ» لماتيو لوفيرجا رواية فرنسية تكشف بشاعة المشاعر السلبية التي تتميز بها الطبقة البرجوازية في فرنسا!
التجاوزات التي تُرتكب في بيئة العمل هي موضوع رواية « متسوِّق سِريّ» التي صدرت في 2023م عن دار نشر جاليمار الفرنسية في حوالي 240 صفحة من تأليف ماتيو لوفيرجا.
لم يأت الروائي ماتيو لوفيرجا بأفكار بعيدة عن واقع بيئته الغربية التي تتميز بإيقاعها السريع وتعكس تأثيراتها السلبية على نفوس البشر، كما أنه لم يسلّط الضوء فقط على المعاناة النفسية والجسدية التي أصابت فئة مهمشة من المجتمع الفرنسي، ولكنه يحاول أن يُظهر بشاعة المشاعر السلبية التي تتميز بها الطبقة البرجوازية، فيدعو إلى تجنبها من خلال رسائل غير مباشرة.
تنتمي رواية متسوق سِريّ الى جنس الروايات الواقعية الاجتماعية التي تعكس واقع طبقة العمال الكادحة في فرنسا كما أنها تصوِّر بيئة العمل في عصر الرقمنة والأتمتة والتقدم التكنولوجي والمنصات الرقمية وتطبيقات الهواتف الخلوية التي تتيح لمستخدميها شراء أي منتج أو الحصول على خدمة في مدة زمنية وجيزة.
غلاف الرواية الغامض يلفت انتباه القارئ في ناحية منه إلى رمزية اللون الأصفر الذي يدل على تغيّر لون الأشياء بسبب العديد من الأمراض التي تصيب بيئة العمل في مختلف المؤسسات والشركات والهيئات، وفي ناحية أخرى يشير هذا الغلاف إلى الراوي الاخطبوط، الذي يمتلك عددا من الأذرع التي تساعده على التمييز بين الجيد والرديء من بين تلك الأشياء.
يأخذنا الكاتب مساء أحد أيام الشتاء الماطرة الى مدينة لِيل الفرنسية التي يجوب شوارعها بسرعة كبيرة جدا الراوي الذي يلعب دوره عامل توصيل الوجبات الساخنة. ستبدأ الخطوط العريضة للرواية تتضح بعدما يتعرض هذا العامل لحادث سير، سيجد نفسه بين عشية وضحاها غير قادر على العمل، ما السبيل إذن الى تغطية التكلفة الاقتصادية لاحتياجاته الأساسية؟
يقترح عليه أحد أصدقائه وظيفة متسوِّق سِريّ في إحدى الشركات التي تهتم بتحسين المخرجات أو الأهداف التي تسعى المؤسسات لتحقيقها عن طريق الموظفين المكلفين بأعمال ومسؤوليات تهدف إلى تلبية حاجات ومتطلبات العملاء، ستنحصر مهام عمله في مراقبة الأداء الوظيفي للعاملين بتلك الشركات، سيصبح الراوي أحد هؤلاء الرجال غير المرئيين الذين يقيِّمون كل شيء له علاقة بالمنشآت ويقيسون جودة خدمة العملاء داخلها.
ستبدأ مسيرته المهنية الجديدة كمتسوق سرِّي، سيغطي عمله جميع مجالات الحياة وسيسعى إلى توسيع مناطق نفوذه، سيسافر إلى جميع أنحاء فرنسا وسيقطع البلاد طولا وعرضا في مهمات مختلفة تستمر لعدة أسابيع أحيانا، سيتعرض الراوي لعدد لا نهائي من المواقف التراجيدية الكوميدية خلال عمله في تقييم أداء العاملين في الشركات الناشئة وفي صالونات تصفيف الشعر والمطاعم والكافيتريات والمراكز الصحية والصيدليات ومحلات المجوهرات ومحطات الوقود والمتاجر باختلاف مساحاتها والمطارات ومحطات الحافلات والقطارات، سيتم تكليفه باختبار الخدمات التي تقدمها هيئة السكك الحديدية، سيبيت في أحد الفنادق ليتأكد من التزام مفتشي القطارات بالتعليمات.
ما الذي أفاده من هذه الرحلات؟ منذ لحظة الانطلاق من محطة قطار تولوز ماتابيو جنوب فرنسا حتى موعد الوصول إلى إقليم كاستلونداري واكتشافه لطبق الكاسوليت الشهير الذي يتكون من الفاصوليا البيضاء المطهية مع اللحم، استطاع الراوي تمييز الفرق الكبير بين هذا الطبق والأطعمة المعلبة المعروضة على أرفف المتاجر التي تضر بالصحة، سيكتشف عالما جديدا يختلف عن عالمه القديم. ولأنه يؤدي عمله على أكمل وجه فسيحصل على ترقية وسيشغل منصبا متميزا في الهيكل التنظيمي للشركة.
أحد التقارير التي قدمها الراوي خلال عمله سيترتب عليه عواقب مأساوية، يتعلق الأمر باستهلاك عقاقير مخدرة بنسب كبيرة، سيتعرض لمشاكل كبيرة وستؤول الأمور إلى ما لا يحمد عقباه، عندئذ ستأخذ حياته منعطفًا جديدًا، مع تصاعد الأحداث تتكتل قوى الشر ضده بخطوات مدروسة وسيضيق صدره بالوقائع الجديدة التي تقوده إلى الدخول في متاهات المعاملات غير القانونية.
ختاما، تتساءل رواية متسوق سرِّي عن عبثية خضوع المجتمع الفرنسي للتطبيقات الذكية وتسخر من تقييمات الجودة التي تغلغلت في بنية كافة المؤسسات، الأمر الذي يدفع العالم لأن يكون ايقاعه أقرب إلى الجنون.
** **
- د.أيمن منير