شوقية بنت محمد الأنصاري
سِحْرُ الشتاء الماطر مرّت سحابته سريعاً وتركت من عطرها الباذخ كنزاً عجيباً، لامسنا قطراتها على مدى أربعة أشهر وأكثر، واكتست جبال أم القرى ووديانها وشاح الخضرة وتناقلتها الأخبار دهشة في دهشة، هي سقيا السماء ورحمات الله على الأرض بمورد مائي عجز الإنسان أن يعي حقيقته المعجزة، وتكوينه من قطرات المدى العلوي الرباني لأنفاق تخزين كونية شاركت يد البشرية في رسم ابتكارات عملية من رحلة السقاية إلى التخزين عبر السنين، وتحتفظ الطبيعة بمخزونها الكوني الذي تجاوز بمساراته قدرات البشر من أنهار ومحيطات وبحر.
إن هذه المقدمة الإنشائية جاءت من تأمل وتفكّر ومن ثم قراءة تبعها بحث لغوي لرحلة سحابتنا المعرفية حول لفظي (السقاية والتخزين) وإدراكنا الحسي لها ولتداولاتها اللغوية المحصورة في رمزيات بعض الحِرَف والمهن، إلى ملاحظة ذلك التطوّر السريع العجيب لاستعمالها اللغوي مواكبة لامتداد التوسع المعرفي وفق لغة العصر الرقمية، هذه النظرة السريعة التحليلية للسقاية والتخزين ما استجمعتُ زواياها إلا بمحرك إعجاز قرآني تضمنته الآية (22) من سورة الحجر، يقول الله تعالى: ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) لتتشكل من جملة الثبوت بتحكمها الخارجي (فأسقيناكموه) وجملة النفي بعجز تحكمها الداخلي (وما أنتم له بخازنين) عدة تساؤلات حول ارتباط السقاية بالتخزين كثنائية أو ازدواجية لغوية، خاصة وأن تفسير الظواهر الحسية بينهما يؤكد تكامل حضورهما وفق سياق الآية القرآنية، كسقوط المطر وتخزين الإنسان له بتصميم السدود سواء بابتكار يدوي من الطين والحصى، إلى صبّات خرسانية صلبة تحجز ماء المطر لفترات طويلة، ومن ثم تأتي الزلال والبراكين والفيضانات وتزيل ما رممته يد البشرية من جهد بنائي لتسيل من جديد تلك الأنهار بالأودية التي قدّر الله تعالى جريانها بتحكّم كوني كما حصل مؤخراً من عودة المياه لنهر دجلة بعد أن هدت الزلال بتركيا ذلك السد العظيم ظنّاً من أصحاب السلطة أنهم امتلكوا مفاتيح السقاية والتخزين ولكنها من اختصاص القدير الحكيم، وينطبق الحال في ذات الإنسان ومهما سقى بدنه من الطعام وذاكرته من العلم والمعارف فتحَكّمه بالتخزين يخرج عن سيطرته لسرّ يعلمه الله بذلك التكوين الجسدي، ونستحضر التعمّق الدلالي لفلسفة الموت الحاسم لكل مقاييس السقاية والتخزين بالبدن والعقل والقلب، ولا ينفك الحال عن عجز البشرية لتخزين الغذاء والمحاصيل النباتية والحيوانية والغاز والتعدين وغيرها من ثروات طبيعية والتي إن نجح الإنسان في الابتكار حولها لتستديم بين يديه ثرواتها لفترة محدودة، ويستحكم توزيعها لفترة قصيرة من الوقت، فتعجز قدراته أمام متغيرات البيئة والمناخ والاقتصاد والسياسة الدولية، وتجلت واضحة انهزامات الإنسان في التخزين بعد السقاية مع تسارع النمو المعرفي والاقتصادي واكتشاف الانترنت وابتكارات التقنية لزيادة طلب التحكّم بالزخم البياني من المعلومات الرمية، وتكشّف عجزه في السيطرة والتحكم بسحابة التخزين المعلوماتية نتيجة الظواهر البيئية الكونية في طبقات الغلاف الجوي، وتنافس الدول للتحكم التقني والأمن السيبراني، لمقاومة العبث البشري في اختراق الانترنت بكل صوره الرقمية، وما هذه الممارسات إلا دليل لغوي لارتباط السقاية والتخزين ونمو استخدامها في كثير من مصطلحات علوم العصر (فأسقيناكموه)، وتبرهن بالحقائق الكونية قبل النظريات المعرفية عجز البشرية عن استدامة رحلة التخزين (وما أنتم له بخازنين) فتتشكل من هذا المورد البياني القرآني التأصيل للسقاية والتخزين والتي بدأت تتحول بين الأجيال مع سيطرة المعرفية الرقمية إلى اقتصار تداولها عبر علوم الانترنت (السحابة التخزينية) مما يؤكد استدامة الصراع اللغوي بين الفصحى والعامية وبالأخص اللغات الأجنبية المسيطرة بمعرفتها، لعلنا بهذا الطرح نحرك الجهود المؤسسية لقضية لغوية ثقافية تعيد التفكير بطريقة تقاوم بها الصراعات اللغوية والتي هي بحاجة لسلطة سياسية تمحو حيرة المهتمين باللغة العربية بحثاً وابتكاراً، وترشد المتعلمين المنفتحين على لغات أخرى بضرورة الاستدلال بالقرارات الدولية اللغوية، التي إن اجتمع روّادها وخبراؤها بالأبحاث التشاركية لتحقّقت من الإبداع الجمعي نتائج مؤصلة تُلغى الصراعات اللغوية وتبرهن أصالة المفردة العربية في مواكبتها لنمو العلوم والمعارف، وبإعادة النظر لتداولات (السقاية والتخزين) بين أروقة المعاجم وكتب تفسير القرآن، والمراجع البيئية الزراعية والمائية، وسحابة التخزين والانترنت لم تتواجد تلك العملية الرياضية التي تبدأ بالسقاية المحدودة ولا تنتهي إلا بخسران جهد مهدور. وسنبدأ بفحص (السقاية والتخزين) وفق الميزان الصرفي العربي، كونه أداة محكمة على قياس المستحدث من مصطلحات ومفردات جديدة وقياس الاشتقاقات منها، لنتحقق من المعاني المتداولة التي تتطلبها الثقافة الحضارية المتطورة، والتي تأسّس مدلولها من أصول لغتنا العربية.
جاء في لسان العرب لابن منظور: السَّقْيُ: معروف، والاسم السُّقْيا، بالضم، وسَقاهُ اللهُ الغيث وأَسْقاهُ؛ وقد جَمَعَهما لَبيدٌ في قوله:
سَقى قَوْمي بني مَجْدٍ
وأَسْق نُمَيْراً والقبائِلَ من هِلال
ويقال: سَقَيْته لشَفَتِه، وأَسْقَيْته لِماشيَتهِ وأَرْضِهِ، والاسْم السِّقْيُ، بالكسر، والجمعُ الأَسْقِيَةُ، قال أَبو ذؤيب يَصِفُ مُشْتار عَسَل فجاءَ بمَزْجٍ لم يَرَ الناسُ مِثْلَهُ هو الضَّحْكُ، إلاَّ أَنه عَمَلُ النَّحْل يَمانيةٍ أَجْبى لها مَظَّ مائِدٍ وآلِ قُراسٍ صَوْبُ أَسْقِيَةٍ كُحْل. (1)
والمتأمل لتنوع معاني السقاية بالمعجم يلحظ عدم مقارنتها وربطها بالتخزين والخزانة، عبّر عنها اللغويون وفقاً لاستخداماتهم لها، وصدق ابن جني حين قال عن اللغة: «أصوات يعبِّر بها كلُّ قوم عن أغراضهم». (2)
أما التخزين فقد وورد بمعجم الصحاح: خَزَنَ المال جعله في الخزانة واخْتَزَنْه أيضا ووخَزَنْتُ السرّ واخْتَزَنْتُهُ: كتمته. والمَخْزَنُ بفتح الزاي: ما يُخْزَنُ فيه الشيء. والخِزانَةُ بالكسر: واحدة الخَزائِنِ. (3)
وفي المعجم الوسيط: خَزَنَ: اللحم، والطعام خزناً، وخزوناً: تغير وأنتن، والشيءَ خَزْناً: جمعه وأدخره ليوم الحاجة، و-عنه العطاءَ: منَعَه وحَبَسَه، ولسانَه: حَفِظه، والسِّرَّ: كَتَمَه، فهو خازِن خَزَنَة وهي خازنة خَوَازِن، والمفعول: مخزون، وخَزين، أخْزَنَ: زيد: استَغْنَى بعد فَقْر، اسخْتَزَنَه: الشيءَ: سأله أن يخْزُنَه، وفي التنزيل العزيز: (وَإِنْ مِنْ شَيءٍ إلاَّ عِنْدَنا خَزَائِنُهُ) وخِزَانَة الإنسان: قَلْبه، وخِزَانة الاحتراق في علم الهندسة والميكانيكا: الفراغ الداخليّ الذي يحدث فيه الاحتراق، المَخْزَنُ: مكانُ الخَزْنِ. (4)
جاء تفسير التخزين في المعاجم مرتبط بالمكان حيث القيمة الجوهرية للمادة المخزونة تعتمد على المسارعة في حفظها وصون قيمتها، وفي هذه التفسيرات المعجمية لم ترد لغة ارتباط بين السقاية والتخزين خاصة وأن حاجة الازدواجية بينهما ازدادت مع تنوع وضخامة علوم العصر.
والآن وقفة تفسيرية حول الآية 22 من سورة الحجر يقول عنها القرطبي « فأسقيناكموه أي جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم. وقيل: سقى وأسقى بمعنى وقيل بالفرق، وقد تقدم. وما أنتم له بخازنين أي ليست خزائنه عندكم; أي نحن الخازنون لهذا الماء ننزله إذا شئنا ونمسكه إذا شئنا. ومثله وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً، وأنزلنا من السماء ماءً بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون. وقال سفيان: لستم بمانعين المطر». (5)
وجاء عند ابن كثير تفسير الآية: « (فأسقيناكموه) أي: أنزلناه لكم عذباً يمكنكم أن تشربوا منه، ولو نشاء لجعلناه أجاجاً. كما ينبه الله على ذلك في الآية الأخرى في سورة الواقعة وهو قوله: (أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون ) [ الواقعة : 68 - 70 ] وفي قوله : ( هو الذي أنزل من السماء ماءً لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ) [ النمل : 10 ] وقوله : ( وما أنتم له بخازنين ) قال سفيان الثوري : بمانعين، ويحتمل أن المراد : وما أنتم له بحافظين، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم، ونجعله معيناً وينابيع في الأرض، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به، ولكن من رحمته أنزله وجعله عذباً، وحفظه في العيون والآبار والأنهار وغير ذلك؛ ليبقى لهم في طول السنة، يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم». (6)
يقول الإمام الشوكاني: [وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ] إن هي النافية من مزيدة للتأكيد، وهذا التركيب عام لوقوع النكرة في حيز النفي مع زيادة من، ومع لفظ شيء المتناول لكل الموجودات الصادقة على كل فرد منها، فأفاد ذلك أن جميع الأشياء عند الله خزائنها لا يخرج منها شيء، والخزائن جمع خزانة: وهي المكان الذي يحفظ فيه نفائس الأمور، وذكر الخزائن تمثيل لاقتداره على كل مقدور؛ والمعنى: أن كل الممكنات مقدورة ومملوكة يخرجها من العدم إلى الوجوب بمقدار كيف شاء قال جمهور المفسرين: إن المراد بما في هذه الآية هو المطر، لأنه سبب الأرزاق والمعايش؛ [فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ] أي جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم. قال أبو عليّ: يقال سقيته الماء إذا أعطيته قدر ما يروي؛ وأسقيته نهراً أي : جعلته شرباً له ، وعلى هذا [فأسقيناكموه] أبلغ من سقيناكموه، وقيل: سقى وأسقى بمعنى واحد [وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين] أي ليست خزائنه عندكم، بل خزائنه عندنا، ونحن الخازنون له، فنفى عنهم سبحانه ما أثبته لنفسه في قوله: [وَإ ن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ] وقيل المعنى: إن ما أنتم له بخازنين بعد أن أنزلناه عليكم: أي لا تقدرون على حفظه في الآبار والغدران والعيون، بل نحن الحافظون له فيها ليكون ذخيرة لكم عند الحاج». (7)
لقد حاكى تفسير الشوكاني شيئاَ من فكرتي حول عجز استدامة البشر على التخزين، وتبقى مسألة السقاية الكونية المسبب الأولى لرحلة التخزين وتحتاج من البرهان والإعجاز العلمي ما يفوق كتب التفسير والمعاجم، لتكتمل صور الأصالة اللغوية للسقاية والتخزين بأبعادها المعرفية والنفسية والاجتماعية والفيزيائية والبيئية وغيرها لدى الجيل المعاصر فيرى فيها تكاملاً للأجناس اللغوية المنبثقة من أصوات الآيات القرآنية، وتداول أصواتها بلسانيات متنوعة، حتى عندما نقف على تفسير عالم اللغة السويسري فردينان دي سوسير للغة ذاتها بقوله: «اللغة وحدها بين كثير من المظاهر الثنائية يمكن أن تخضع على ما يبدو لتعريف مستقل قائم بذاته وتقدم في الوقت نفسه الركيزة التي ترضي العقل. ولكن ما اللغة Langue؟ ينبغي أن نميز بينها وبين اللسان البشري (Langage) فاللغة جزء محدد من اللسان، مع إنه جزء جوهري -لا شك- اللغة نتاج اجتماعي لملكة اللسان ومجموعة من التقاليد الضرورية التي تبناها مجتمع ما ليساعد أفراده على ممارسة هذه الملكة «(8) إن في تفسير دي سوسير ما يجعلنا نعيد النظر في كل ما قيل في اللغة، خاصة ونحن نقف على مدلولات مفردة (فأسقيناكموه) ففي رموزها الممتدة ما يفوق تداولات الفرد والجماعة وجغرافية المكان المحدودة، وهو مغزى مقالتنا لتتبع التطوّر العلمي لتفسير هذه الظاهرة اللغوية بين (السقاية والتخزين) وغيرها من مفردات سواء أكانت ثنائية أو مزدوجة، وذلك العمق الداخلي والخارجي لتداولها، وسواء اندرجت مع العامية المتداولة (سحابة التخزين) أو الفصحى المتأصلة، وأتفق مع رأي الفرنسي أندريد مارتينه بقوله: «الازدواجية موقف لغوي اجتماعي تتنافس فيه لهجتان لكل منهما وضع اجتماعي وثقافي مختلف، فتكون الأولى شكلاً لغوياً مكتسباً ومستخدماً في الحياة اليومية، وتكون الثانية لساناً يفرض استخدامه في بعض الظروف الممسكون بزمام السلطة».(9)
لنجد أنفسنا أمام قضية لغوية محورها العامي بين عوالمنا الحالية، وإعجاز صوتها المتأصل عربياً له آفاق بيانية تحتاج لابتكار إنساني عربي، وهذا يشمل التتبع اللغوي في المعرفة الإنسانية كافّة، بمنطق علمي حديث بالتجربة والبحث الجمعي، وحتما سينتج عنها تفسيرات لغوية بعد الاختبار والمقارنة للتأكد من التعليل وتصويبه، وما ذلك إلا ليعيش الجيل تجربة بحثية لغوية والخروج من منظومة التلقين والحفظ للنظريات الغربية اللغوية ويزداد قناعة بموروث لغتنا العربية المواكبة لكل عصر ومكان.
ومن جماليات البحث في تطور الدلالة اللغوية بين (السقاية والتخزين) ربطها بمعطياتنا المعرفية وطريقة توظيفها بحياتنا الواقعية، لننبه الأفراد بوعي حول إدراكهم اللغوي لها، فقد بات التناقض الثقافي يعج بتردّد نفسي لواقعنا اللغوي ويلزمنا جهداً بحثياً عن جمالية الحقيقة فيها، فكيف بعالم الأطفال الذين أضاعوا الفصحى أمام نزاع العامية واللغات الأجنبية، فقد تمرّ مفردة قرآنية على أسماعهم ولا يأتي تأويلهم لها إلا من صخب العامية بينهم، ونحن كتربويين نقارب ونيسّر لعل الطفل يدرك لساعات محدودة أن في هذا القرآن من الصوت الإعجازي ما سبق تفكيرنا ومنطقنا، وكون الممارسات اللغوية الفصيحة المقوّمة للسانه العربي باتت اليوم مختلطة، فكانت الطفولة أولى وأعظم مدخل في صميم اهتمامي اللغوي والأدبي، لأسقي تلك الأرض الخصبة التي تشكلت من نقطة ماء جاء سقياها بأمر الله القادر الحكيم، وتأتي تكويناته الجنينية في مخزن الأمومة وتظهر هنا معادلة رياضية تبرهن تكامل الرحلة من السقاية للتخزين وثمرة الرحلة المعدودة بطفل سيشقّ طريقه وسط ميادين متنوعة من السقاية الحسية الآمنة من مطعم وملبس ومأوى، وهنا نلاحظ عدم تمكن الفرد في تحديد نوعية السقيا والتخزين والتحكم بها، كونها تقف على محددات اجتماعية لأقدار الله وفيها حكمة بين البشرية، ثم تليها رحلة السقاية الفكرية التي تشكل مفتاح البداية فيتنبه لها الفرد ويصنع مخزنه الحياتي من العلوم والأدب والفنون تعينه على أن يتخيّر الأجمل وفي نفس الوقت تربّي فيه الجرأة ليستعين ويقرّر، فالسقاية والتخزين بهذه المرحلة تتداخل فيها المؤثرات الخارجية الاجتماعية والمعرفية الداخلية ويحتاج الفرد لموجّه وميسّر، فما زالت مرحلة الطفولة في طور السقاية البدنية والعاطفية والفكرية، وهنا نكتشف المحك بين طفل انغمس في لغة فصيحة تعليماً وتعلّماً وتحدثاً وكتابة وممارسة جدية لا تنفصل عن شريط حياته ليجد في خزانته اللغوية ما يعينه على صعود مراتب الإبداع فكرياً ومعرفياً وثقافياً، ويقابله طفل تشوّه لسانه بين العامية واللغات الأجنبية لا يتقن من لغة الحوار سوى التنمر والثرثرة بلا منطق، والفكر لا يتجاوز في تفسيره السطور فكيف له أن يبحر في الإبداع والفهم ومداركه محدودة، لابد من إعادة استراتيجية التعليم والثقافة حول منهجيات المعرفة المتداولة فيتحقق من خلال سقاية الطفولة بزخم سحابي ماطر من القراءة والكتابة المنبثقة أولها الدلالية من القرآن الكريم والسنة النبوية ليكتشف الطفل عندها كيف نمت هذه المفردات بين عدة مناهج أدبية وعلمية وفنية ورياضية واجتماعية، يقارن ويجمع ويحلل ومن ثم تزداد ذائقته اللغوية جمالاً وتتفتّح مدارك التفكير الناقد لديه، عندها سيختزن سلوكاً لغوياً متزناً تأسّس على قواعد اللغة العربية، وموظّفاً لخصائصها مع ما يصادفه من تطورات علوم العصر، فيقف ذلك الطفل مواصلاً رحلة إبداعه العمرية متقدماً بكل جمالية على منابر مؤتمرات الذكاء الاصطناعي أو الإعلام أو الاتصالات (ليب) يعدّد المنجزات المعرفية بلغة رقمية تواكب اللغة الحاسوبية، ويختمها بحكمة لغوية هي جوهر الابتكار المعاصر من ذلك الصوت الدلالي الساحر (فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين) (وما من شيء إلا وعندنا خزائنه).
المراجع:
1- ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم (لسان العرب) دار الصادر، بيروت ص211
2- ابن جني، أبو الفتح عثمان (الخصائص) تحقيق علي النجار، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، ص 33
3-الرازي، زين الدين أبوعبدالله محمد بن أبي بكر (مختار الصحاح) تحقيق: يوسف الشيخ محمد، المكتبة العصرية، بيروت ص90
4- الهواري، صلاح الدين (المعجم الوسيط) دار البحار، بيروت ص447
5- القرطبي، أبوعبدالله محمد بن أحمد الأنصاري (الجامع لأحكام القرآن) دار الكتب المصرية، القاهرة ج10، ص10
6- ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري، (تفسير القرآن العظيم) تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت ص456
7- الشوكاني، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله اليمني (فتح القدير) دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، بيروت ج3، ص153
8- دي سو سيور، فردينان (علم اللغة العام) ترجمة د.يوئيل يوسف عزيز، مراجعة د.مالك يوسف مطلبي، دار الآفاق العربية، بغداد، ص27
9- مارتينيه، أندريه، الثنائية الألسنة والازدواجية الألسنية، دعوة إلى رؤية دينامية للواقع، ترجمة نادر سراج، مجلة العرب والفكر العالمي، العدد11 1990م، مركز الانماء القومي، بيروت، ص24