د. شاهر النهاري
لعل ليلة مثول الشاعر علي أحمد سعيد إسبر، المعروف بأدونيس، أمام المثقفين السعوديين ولأول مرة في عمره التسعيني، بمحاضرة «أدونيس الشعر والحياة»، تعتبر قفزة ضوئية لهيئة الأدب والنشر والترجمة، وتمكن بحور لأكاديمية الشعر العربي، وقافية سبر أغوار لم تكن مطروقة قبل الرؤية السعودية.
أدونيس (1 يناير 1930)، شاعر وناقد وأكاديمي ومفكر سوري - لبناني - فرنسي، والذي تلقى عدداً من الجوائز العالمية وألقابا ومناسبات تكريم، وتُرجمت أعماله إلى ثلاث عشرة لغة، وظلت أطياف من المثقفين العرب يرشحونه لجائزة نوبل للأدب، نظرا لطول فترة إنتاجه، وتمسكه بالشعر العربي المقفى، وثقافته، التي قاد من أجلها ثورة حداثية في النصف الثاني من القرن العشرين، زلزل بها أوراق وأصنام الشعر العربي، ولكنه ظل بعيدا عن مواصفات العروس نوبل.
ومما استقرأنا منه أنه ابن عائلة علوية متواضعة كانت تعمل في الفلاحة، وأنه عاش بدون تعليم مدرسي حتى سن السادسة عشرة، فكان والده مدرسته، وأكاديميته، وكان تأثره وحبه وإعجابه بشعراء الجاهلية، أمثال طرفة بن العبد، وامرؤ القيس والحارث بن حلزة وزهير بن أبي سلمى وغيرهم عقولا وألسنا ووجوها تتشكل له، ومجالات مقارنات ومجاراة ومطارحات بنوع من الحداثة، وكثير من الانتماءات السياسية والفكرية، التي تختلف.
أدونيس حكاية عجب، بداية من المسمى الذي اختاره لنفسه، تيمناً بأسطورة فينيقية لها العجب، بما تحمل في معانيها من الخرافات، والحبكة الدرامية، فكأنه وكما سألته: يهرب بالرمز والخيال من كينونة لم يكن يجدها تبرق بذاته، فظل يختبئ خلف أسطورتها، بإيمان عميق جعله يرتدي استبرق وزبرجد مسماها طوال عمره، حتى وأن اسمه الأبوي العائلي «علي أحمد سعيد إسبر» غير مشهور بقدر عشر شهرة دثار الفينيقي المؤدلج بروائح برتقال البحر الأبيض المتوسط، وانتهاء بما وصل إليه من ثقافة يشار إليها بالبنان.
صحيح أنه لم يوافق معي بالكامل على وجود عملية الهروب المعنوي في حياته، مع أنه بظني متلبس بها مع الإصرار والترصد، وأنها غائرة في قص أثر خطواته المرسومة بعمق الزوايا والإشارات والتمرد، ولكنه أدرى بشعاب ذاته.
تخيل شباب الثلاثة والتسعين عاما، بجسده الصغير يتحرك فوق المسرح بخطوات وثابة، وعين تلتمع خلف العدسات المقربة المبعدة، وسمعه ينتقي المفردات، وهو يبجل الأمومة وأدوارها، والأنثى بما أرضعته من أصل الحياة، وديمومتها، وقد تكلم عن نوع التعليم الذي بلغه من خلال والده، فكان عاطفيا فخورا بتلك الأبوة، قبل أن يعرج على سؤال يطرحه كل مفكر على نفسه: من أنا، ولعل تلك فلسفة يُكتب فيها مجلدات، حسب نوعية الأنا، وقدر الوعي بها، وحضور الشفافية، والقدرة على قياس القدر بين الآخرين، دون ادعاء ترويض صهوة غرور، ودون تواضع يمسح الكنه، فالفروق مهمة، ليس فقط للتميز، ولكن لكينونة شاعر حالم يكتب الحكمة، والحب، والتناقضات في أبياته.
لقد صور الإنسانية تتبلور عند الفرد بطرح الأسئلة وليس بالإجابات عنها، فالسؤال يدوم ينقب، ويكتشف الأكثر، والإجابات تعطل وتشتت وتغطي.
لقد تحدث عن مُعلمه الأول، فكان أن فاخر بشعراء الجزيرة العربية الأولى، كرمهم، وشجاعتهم، وحريتهم، وألسنتهم وأوزانهم وبحورهم، وأعلن من قرب قمة انقضاء القرن، بأنه ما يزال تلميذا لكتاتيب أشعارهم.
لقد عبر عن مدى شوقه وفرحته، التي لا توصف بدعوته لزيارة أرض الجزيرة العربية، وأشاد بنهضة الرياض، وبأنه يجدها فنارة ملهمة في كل حرف ومنظر، وكل خطوة، وكل بشر يقابله حلم يتحقق.
تكلم عن أسس المعرفة، وثقافة تربوية تأسيسية أخلاقية عاش بها، وما يزال يؤمن بجزئياتها، وتأثيرات نتاجها، وقطافها، ولو بعد حين.
عرج على ثقافة الرجولة المفتخرة، ومشاعره حيالها.
تحدث عن عصر النهضة الأوربية وتأثيراتها، وحدد استحالة استعادتها من جهة، وصعوبة استعارتها من جهة.
تكلم عن شعراء عرب حملوا ألقابا مجاملة لا تمت للشعر بوجدان، فكان أمير الشعراء أحمد شوقي، والذي قارن بينه وبين صلاح جاهين شاعر الزجل المصري، في مدى التأثير وبلوغ الشارع، وكذلك لغة الشاعر الجواهري، الملقب بأبو الفرات، وأشعاره المغرقة في الثورة، وصلادة وتكرار استعادة المديح والهجاء، وميز بينه وبين الشاعر العراقي مظفر النواب، فكأنه يذود عن عوالم إبداع الشعر للشعر، بهيكلة وحرية ونبوغ لا يجب أن يحدد بالألقاب المصطنعة.
وقد شدد على وجود علل الاستعادة في الفكر والشعر جراء شيوع أسواق ومستهلكين، وشدد على أنه لا يمكن الإبداع اليوم في ثقافة شعر العالم العربي، إلا بهجران الاستعارة والاستعادة، لكون مجالات الشعر متنوعة جدلية بلغة محترمة متحركة لا بد لها أن ترافق حرية الإبداع والعوالم الساحرة.
وقد أشار في محاضرته إلى قيمة حرية المرأة، والتي خلقت حسب ما قال قيمتها العالية في الشعر، وأن محاولات تكسير في ودها خلقت في شعرها تميزا وصراع خلاق أسست له في أشعار المرأة العربية المنتفضة بمواد غنية وكومة مشاعر، فكأنها تحقق ما فشل فيه الشاعر المفكر الرجل! وأنها متقدمة عليه حاليا، ما أدهش بعض الحضور، ومنهم إحدى الشاعرات السعوديات، التي بصيغة احتجاج طالبت بأمثلة منه على ذلك!
وقد أكد أن للشعر حياة قادمة طالما تحرر الشاعر من القيود، وأخرج رأسه من جذوة المشاعر.
وتساءل أدونيس: ما معنى الاستمرار في الكتابة بروتينية وتداخل، وبكون الجميع يكتبون بمثل ما يكتب كل شاعر منهم، ووجه كلماته للشعراء بأن يتحرروا من المضاهاة والتقليد، طمعا في اختراق أكوام جليد الجمود الفكري.
وتحدث بحرقة عن اللغة العربية، لكونها تزداد تباعدًا عن واقع الحداثة والاختراعات ولكونها تعيش في مكبات الماضي، وأن كلماتنا المتصارعة تضرب الكلمة بالكلمة دون زيادة ولا فائدة.
وشرح بأن لعبة البحث عن الحقيقة في اللغات الأوروبية قد انتهت، وأن ذات المعنى بالنسبة للعربية الحالية يظل يقاوم الشيخوخة بما تعانيه من الركود وقلة الإبداع.
اللغة في حياة أدونيس ساحات حرية وحياة لا تموت وباب مفتوح على كل الجهات
ولديه أن علاقة جسد الإنسان بالأشياء من حوله ليست إلا شعرا، وأن كل ما يعطي صورا جديدة في الوجود، هو شعر، وأن الحب هو قلب الشعر الأعظم.
أدونيس شاعر عظيم، ومهما اختلفنا معه أوحوله فلا بد أن نتوافق أن رؤيته السياسية تمثله، وهو لها ومنها أقرب، ولكن ملاحظتي على ندوته أنها كانت تعريفية فكرية أكثر منها إمتاعية أدبية، فلم ننهل منه شعرا مخزنا ولا طازجا، ولو أننا كنا متعطشين لنعب ونرتوي من النبع ذاته، وكنا نتمنى أن نبلغ قمم الدهشة بروعة الأبيات، حينما تهزنا على كراسينا، وتمرجحنا بين الأضواء المحتفلة به، وتحرك فلقات أمخاخنا ببخات من الهرمونات، تزيد أو تنقص من هوجة دقات قلوبنا.
ولعل تلك ميزة الكبار، فهم من يقودون الندوات والحوارات، إلى الزوايا، التي يرومونها، ويتمنون تثبيتها في الوجدان، وفي الصحف والأفكار، متوقعين ما سيتبعها من حوارات، تحكي عن أسطورة تسعينية، كنت أتمنى أن أنزوي بها على انفراد، خارج قاعة قصر الثقافة بحي السفارات في الرياض، لأبلغ معها ولو قرب سفح يطال بين جبال تجربته المعجونة برائحة الأرض ونبض الكائنات، وشباب الفكر وروعة الخضار، فتكون سلاما على مقالي هذا، الذي قد يكون به بعض المبالغات، أو بعض التخيلات، ولكن العتب على حافظتي الاستقصائية الشفوية الصحفية.