عهود عبدالكريم القرشي
إنه لأمرٌ جيد، أن تقرأ كتابا ويعجبكَ بكل ما فيه، ولكن أن ينال ذلك الكتاب ضوء انتشار، وجمال ظهور، وجائزة وتقدير، فهذا أمرٌ يُصيب القارئ -المنحاز نحو الجمال- في مقتل حب. ولقد أكرمتني الحظوظ وعشت فرحة نجاح الكاتبة العمانية آية السيابي. وأعني بذلك حصول مجموعتها القصصية الأولى والتي حملت عنوان «لن أوراي سوأتي»، على جائزة الشارقة لإبداعات المرأة الخليجية في دورتها الخامسة 2023.
ولكن ما الذي كتبته آية السيابي وجعلني لقصصها من القارئين، ولأسلوبها من المُعجبين، وما الجائزة التي حصلت عليها من المُهنئين؟
حين تُقرر المرأة أن تخبر العالم وتصرخ: «لن أواري سوأتي» فالوجع أعلى من الصمت، وأكبر من المداراة. ولقد حملت آية السيابي على عاتقها الكتابة عن المرأة، دون إطلاق الأحكام المعلبة، أو التنازع حول الحقوق الموزعة، ودون تحيز وتقرير مصير، أو إشاعة لومٍ وتقريع. عبرت بحرارة وألم عما أدمى قلوب النساء، أخذت مشرط الكلمات، وقطعت دابر الوجع ثم أخرجت على الورق رصاصة الألم.
لقد نسجت آية السيابي من القصص رداءًا يواري سوأة الأوجاع، وصرخت في وجه من عاثوا في القلوب طعناً وإيلاماً: لن أوراي سوأتي. لا على سبيل التحدي، بل على نهج الوضوح!
أن تكتب المرأة عن المرأة، يعني أن تعيش ألف حياة أخرى، لأن قلب المرأة، في كل بيئة، وبأي لغة، وتحت أي ظرف، قلب يسع سماء الحنان وأرض الأمان، قلب قُدر له أن ينبض نيابة عن قلوب عائلتها وأهلها! فإن جاءتها الخيانة من ذويها، أو قُتل حلمها في مجتمعها، أو نالوا من شرفها فمن ينصفها؟ وما عسانا نفعل نحن النساء إن لم تُداري إحدانا الأخرى، وتتحدث ذات الصوت عن خرساء التعبير، وذات القوة عمن وهن الصبر منها. ما عسانا نفعل إن لم نكتب قصص الحاضر، ليقرأها أبناء الغد!
أخبرتنا آية السيابي الحقائق كاملة مغلفة بورق القصة، عليها شريط الإبداع اللغوي، معطرة بإحساس الأنثى! بدءًا من الغلاف الذي اختارت أن يكون لوحة لفتاة يملؤها الانكسار، أبدعتها أنامل الفنانة التشكيلية العمانية مريم الوهيبي، مروراً بالتقديم الذي كتبته أميرة الشعراء عائشة السيفي، ثم قائمة المُهدى إليهم.
ضم الكتاب تسع قصص تناولت فيها السيابي قضايا المرأة ومشاكلها العائلية والنفسية، تسع قصص على مقدار حمل المرأة ، وعدد شهور الوهن.
في إحدى القصص حضر الحب ومعه الفقر والخذلان، فلم يكن الأخ هو السند بل «جدار آيل للسقوط، وزورق زبدي استكان لريح لعوب» ص10، وفي قصة أخرى، تركت الخادمة رضيعها في حجر أمها، وغادرت وطنها تحت وطأة الحاجة، ثم على متن الطائرة شعرت «بوخزٍ في ثديها، يتدفق الحليب دافئاً منه، تضغط عليه وتمتلئ عيناها بالدموع» ص20، فأي رحلة هذه وأي خدمة وابتسامة ستقدمها لأوليائها الجدد!
لم تخلو القصص من الروائح والعطور، ولكن، فاحت بشكل صادم «روائح الفيكس والدهان» ص،37 من الكهلِ الذي تزوج يانعة الجمال، صغيرة العمر، كبيرة العاطفة. ونال ابنه الشاب، حديث عهدٍ ببلوغ، من زوجة أبيه ما لم ولن ينله والده! فأي ظلمٍ أوقعه الرجل على نفسه، وزوجته، وعائلته؟
ثم تتوالى القصص، فهناك «رجل خمسيني وفتاة عشرينية، وقاحة وحاجة» ص53، وهناك «حفاة طهر عراة مبدأ»ص91.
وما بين أبيات شعرٍ، واقتباساتٍ، وصور، تمضي أحداث القصص على أرض الواقع بخيالِ مُتزنٍ يكاد يقول صدقوني! تساءلت آية السيابي في طيات بعض قصصها كما لم تسأل المرأة من قبل، استفهامات تمضي لعمق البحار، بلا جدوى الوصول إلى سواحل الأجوبة، «ترى هل كل إناث العالم يعانين، يتكئن على العيب فتصادر أحقيتهن في الإحساس؟» ص79، و«هل يكون الاسم عورة؟»ص105، وحين تجبر المرأة على الاعتراف بذنبٍ لم تقم به قط تتساءل حينها «إذا كسر الشراع فكيف للريح أن تُعينك؟» ص98.
طعّمت آية السيابي مجموعتها القصصية بألفاظٍ قرآنية، ومعانٍ إنسانية، وجمل بلاغية، وأكملتها بدعاء حريٌ بكل الكُتاب والمؤلفين ترديده ليلاً ونهاراً.
«رب هب لي من لدنك قلماً كحد السيف أقاتل به بلا دماء ولا وجل.» ص104 آمين.
ختاماً، حينما يُكسر قلب المرأة، فتُغتصب حقوقها، وتقتل كرامتها، أو حينما يُصلبُ وجودها، وتُقطع أطراف عاطفتها، فلا راد لغضب القلم إلا الورق!