أحمد بن عبدالرحمن السبيهين
إيرنست هيكاكس - مجلة «ريدرز دايجست» - مايو 1947
العلاقات الإنسانية بين البشر، وهي الواجبات أو الأشياء التي يجب على الفرد أن يفعلها أولا يفعلها؛ مُتعارف عليها منذ خمسة آلاف سنة.
لقد دوّنا بلُغاتنا المختلفة الاعتقاد بأننا لو استخدمنا عقولنا وقلوبنا جنباً إلى جنب في ممارسة تلك العلاقات الإنسانية فلربّما استطعنا أن نجعل الحياة مقبولة للتعايش السلمي بين جميع البشر، لكننا للأسف كتبنا خلال تلك السنين سجلّاً حافلاً بالفشل!
المشكلة ليست في الأرض؛ في تُربتها ومائها وأشعّة شمسها وخصوبتها، فلكلّ مليارات البشر الذين يعيشون على سطح هذا الكوكب لا تزال الأرض فسيحة للعيش وغنيّة بالموارد التي تكفيهم، ولتزويد مليارات أخرى من الناس في المستقبل بكلّ ما يحتاجونه من مقوّمات العيش الرغيد.. وباستخدام الحكمة القديمة المشهورة، نقول بأنه: «لا يوجد مشكلة في هذا العالم، إلا البشر الذين يعيشون فيه»!
فنحن لم نبذل جهوداً في مجال أبحاث تطوير العلاقات الإنسانية، يوازي الحماسة والطاقة التي بُذلت في الأبحاث العلمية. فقبل أربعمائة سنة لم يكن لدينا علوم، ولكن منذ ذلك الوقت قمنا بتطوير قدراتنا التكنلوجية إلى حدّ تمكننا الآن من قياس درجة حرارة الشمس، وتطبيق تقنية انشطار الذرّة.
وبالمقابل ماذا عملنا في مجال تطوير العلاقات بين البشر؟
استخدمت حكومة الملكة (اليزابيث) المكيدة والدسائس والبوارج الحربية كأسلحة استراتيجية في تنفيذ سياستها الاستعمارية، وكذلك فعلت دول أخرى، فاقتصاديات العديد من الدول الآن تعتمد على تجارة الحروب وأسلحة الدمار، بشكل يُميّز التجارة الدولية في القرن العشرين.
منذ أربعمائة سنة لم يكن الإنسان آمناً في وطنه، ولم يكن متفائلاً حيال أمن أطفاله في المستقبل، فهل ترى أنت أيّ أمان لمستقبل أطفالنا اليوم؟
هذا القرن الذي تميّز باكتشاف (البنسلين) واختراع العقاقير الطبية الأخرى، وتوفير الرحلات الجوية السريعة لأيّ مكان في العالم، وبالمستشفيات الحديثة، والمكتبات.. هذا القرن وجد طريقه لتفجير ملايين البشر وتحويلهم إلى بخار بضغطة زرّ!
لأن حالة خوف البشر المستمر من بعضهم بعضا تستدعي احتمالاً قائماً ودائماً بضغطة ذلك الزرّ الرهيب.
فالخوف في رأيي هو سبب فشلنا، فمن أين للخوف هذه القوّة الطاغية والمسيطرة علينا؟
عندما خُلق الإنسان الأول على وجه هذه الأرض منذ ملايين السنين، كان عليه أن يخاف من كلّ ما حوله، ليبقى على قيد الحياة.. كان عليه أن يتوجّس من الغُرباء الذين يظهرون فجأة أمامه، وكان عليه أن يخشى الحيوانات المتوحّشة التي يمكن أن تمزّق جسده بأنيابها، وكان عليه أن يخاف من النبات الذي ربّما تحتوي ثمراته على السمّ الزعاف.
كانت حياة الإنسان الأول عبارة عن كفاح مرير من أجل البقاء، وكان كلّ كائن حيّ متحرّك يعتبره تهديداً محتملاً لوجوده، ولذلك فإنه لا يمكنه الوثوق بأحد، ولا أن يكون مضيافاً لأحد، لأنه لو فعل أيّ من ذلك لحفر قبره بيده، ولذا فقد كان عليه أن يشدّ قبضته بإحكام في مواجهة العالم الخارجي.
بعد مرور قرون من الكفاح، تمكّن الخوف والشكّ والتوجّس من التحكّم العميق في تصرّفات البشر، ولا زالت هذه الصفات موجودة لم تتغيّر إلى يومنا هذا!
كان على الإنسان أن يقضي أزمنة طويلة تخلّلتها كثير من الحروب والجرائم والمجاعات، ليقتنع أن بإمكانه أن يأمن جانب العائلة التي استقرّت على الجانب الآخر من التلّ وينضمّ إليها لتكوين القبيلة، وكان عليه أن يشهد مرور أحقاب أخرى ليقتنع بأن القبائل يمكن أن تتوحّد قواها لتكوِّن كياناً واحداً.
كانت كلّ خطوة على ذلك الطريق يسيطر عليها شبح الخوف ويبطئ من تقدّمها، وكان الإنسان أثناء ذلك متمسكّاً في علاقاته بالآخرين بأساليبه الحذرة القديمة التي تعوّد عليها لأنها كانت مأمونة العواقب، وكان يتجنّب سلوك طرق جديدة أخرى لأنها كانت مجهولة وخطرة.. وهذا هو الذي ما زلنا نحن نفعله للأسف في الوقت الحاضر!
فقد اعتمد البشر قديماً على قوّة التحمّل والشجاعة والخوف لكي يبقوا على قيد الحياة، بينما تصوّر خيالهم أن يوماً ما سيأتي ليبنوا عالماً ينعم بالأمن والسلام، وها نحن نرث كلّ هذه الصفات، ونرث التفكير في ما يجب فعله لنعيش في عالم أفضل، ولكن الخوف والتوجّس من البشر الآخرين يُعيدنا إلى المربّع الأول. أبقى الإنسان المعاصر على أساليب العلاقات البشرية القديمة المتوارثة كما هي منذ القدم، بينما عمل على تسريع التقدّم العلمي، فكانت النتيجة أن فجوة زمنية تمتدّ لآلاف السنين أصبحت تفصل بين التطوّر التقنيّ والعواطف الإنسانية.
فقد مكث الإنسان زمناً طويلاً ليتغيّر سلاحه من الهراوة والرمح إلى البارود، لكنه بفضل المعامل العلمية الحديثة تغيّر سلاحه من البارود إلى القنبلة النوويّة في ظرف أعوام قليلة!
فمن سخرية الأقدار، أن الخوف في فجر الحياة البشرية كان هو الملاذ الآمن من الفناء، ولكن الخوف في العصر الحديث أصبح هو المُسبّب للفناء!!
إن ما يحتاجه البشر اليوم هو الإيمان الراسخ بأن كلّ سكان الأرض يمتلكون خصائص مشتركة من الآمال والعواطف والقيَم والصلاح طاعة للخالق.. ولن يُبقينا آمنين هجومنا الغريزي في وجه الشخص الغريب أو المجهول، فطريقنا الوحيد نحو السلام هو أن نتعرّف على المجهول ونمدّ أيدينا إلى الغريب بالثقة والاحترام.