د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
المشهور استعمال اسم التفضيل (أفْعَل) الملازمة الحرف (مِن)، نحو قوله تعالى {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإيْمانِ}[167-آل عمران]، ولكنّ (أفعل) قد يستعمل في اللغة لغير التفضيل ولا يلازمه (من) الدال على التفضيل، فيكون (أفعل) بمعنى اسم الفاعل أو الصفة المشبهة باسم الفاعل، وشواهده كثيرة في القرآن وفي الأشعار، ومن ذلك قوله تعالى {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [32-النجم]،
وقوله {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [228 –البقرة]
وقوله {وَهُوَ الّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [27-الروم]
وقوله {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتََّبَعَ} [35-يونس]
قال أبوحيان «أحق: ليست أفعل تفضيل، بل المعنى: حقيق بأن يتبع»(1).
وقوله تعالى {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [87-هود]
قال أبو حيان «أطهر: ليس أفعل تفضيل؛ إذ لا طهارة في إتيان الذكور»(2).
وقوله تعالى {أُولَئِكَ الّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا [16-الأحقاف]
قال الجَمل «بمعنى حسن، فالقبول ليس مقصورًا على أفضل وأحسن عبادتهم، بل يعم كل طاعتهم، فاضلها ومفضولها»(3).
ومن ذلك في الأشعار قول الشنفرى:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم
فإني إلى قوم سواكم لأميلُ
وإن مُدّتِ الأيدي إلى الزاد لم أكنْ
بأعْجلِهم إذْ أجشعُ القوم أعْجلُ
ولعل هذه الشواهد وغيرها مما جاء في لغة العرب هي التي دعت أبا عبيدة إلى القول إن (أفعل) بمعنى فاعل، قال عند قوله تعالى {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [27-الروم] «مجازه: وذلك هيّن عليه؛ لأن «(أفعل) يوضع في موضع الفاعل قال [معن بن أوس]:
لعمرك ما أدرى وإنى لأوْجلُ
على أيّنا تعدو المنيّة أوّل
أي وإنى لواجلٌ أي لوجِل، وقال:
[تَمَنَّى رِجالٌ أن أَموتَ، وإنْ أَمُتْ]
فتلك سبيل لست فيها بأوْحد
أي بواحد وفى الأذان: الله أكبر، أي الله كبير. وقال الشاعر[الأحوص]:
إنِّي لأمنحك الصّدود وإننى
قسمًا إليك مع الصدود لأميل
وقال الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتا دعائمه أعزّ وأطول
أي عزيزة طويلة»(4).
قال أبو حيان «وزَرَى النحويون على أبي عبيدة هذا القول، ولم يسلِّموا له هذا الاختيار، وقالوا: لا يخلو أَفْعَلُ من التفضيل. وعارضوا حججه بالإبطال، وتأوَّلوا ما استدلَّ به ... فأمَّا ما استدلُّوا به على كون أفْعَلَ يكون بمعنى فاعِل أو بمعنى الصفة المشبهة فهو محتمل فيه التفضيل»(5).
وأما المبرد فجعله قياسًا، قال «وَاعْلَم أَن (أفْعَل) إِذا أردْت أَن تضعه مَوضِع الْفَاعِل فمطرد، فَمن ذَلِك قَوْله:
قُبِّحْتُمُ يا آلَ زيدٍ نَفَرَا
أَلْأَمُ قَومٍ أَصْغَرًا وأَكْبَرَا
يُرِيد: صَغِيرًا وكبيرًا فَهَذَا سَبِيل هَذَا الْبَاب»(6).
وتوقف ابن مالك في هذا، قال «وأجاز أبو العباس محمد بن يزيد استعمال أفعل مؤوّلًا بما لا تفضيل فيه قياسًا. والأولى أن يمنع فيه القياس ويقتصر منه على ما سمع»(7).
نخلص من هذا إلى أن النحويين اختلفوا فذهبوا ثلاثة مذاهب:
الأول: منع مجيء أفعل بمعنى فاعل ونحوه وتأوّل ما يفهم منه ذلك.
الثاني: قبول مجيء أفعل بمعنى فاعل ونحوه في حدود السماع.
الثالث: قبول مجيء أفعل بمعنى فاعل ونحوه وجعله مقيسًا.
ولعل الاتجاه الثاني أرجحها بشرط أن يكون ثمّ قرينة تصرف أفعل عن دلالة التفضيل.
**__**__**__**__**__**__**
(1)أبوحيان، البحر المحيط، 6/55.
(2) أبوحيان، البحر المحيط، 6/187.
(3)سليمان الجمل، حاشية الجمل على تفسير الجلالين، 4/ 134.
(4)أبو عبيدة، مجاز القرآن، 2/ 121.
(5)أبوحيان، التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل، 10/ 270.
(6)المبرد، المقتضب، 3/ 247.
(7) ابن مالك، شرح التسهيل، 3/ 60.