لا يخفى على محبي الدرامة العربية أن العمل السعودي (طاش ما طاش) خرج مقتبساً من العمل السوري (مرايا)، فقد بدأت الحكاية منذ عام 1993م عندما ظهر المسلسل السعودي (الغربال) الذي كتبه بطل مرايا الأوحد الأستاذ ياسر العظمة وحوّله إلى نص سعودي الأستاذ راشد الشمراني، وشارك فيه نخبة من الممثلات السوريات وممثلين سعوديين من الرعيل الأول كان من بينهم الأستاذ عبد الله السدحان. ولأن تجربة الغربال كانت ناجحة فقد طلب الأستاذان الكبيران عبد الله السدحان وناصر القصبي بحسب رواية الأستاذ ياسر العظمة أن يكتب العظمة لهما نصاً جديداً، ولكنه نصحهما بأن يكتبا النصوص بنفسيهما لأن أهل مكة أدرى بشعابها، ومن هنا انطلق طاش في ذات العام لينافس مرايا ويتفوق عليه أحياناً. وقد برع العملان عبر لوحات اجتماعية يومية خلال شهر رمضان من كل عام في تقديم المجتمعين السوري والسعودي بجرعات مبالغ فيها من الكوميديا، واستعان طاش في بداياته بأفكار مرايا مثل الخبير الأجنبي والمدير العام رغم عدم وجودها في المجتمع السعودي كظاهرة، ولكن كان الهدف من ذلك الهروب من الإسقاط على جهة معينة، وكان ذلك أمراً حتمياً للهروب من مقص الرقيب أو عدم إذاعة الحلقات، خصوصاً وأننا نتكلم عن حقبة بداية التسعينيات التي لم نعتد فيها على الانتقاد الصريح أو حتى التلميح حتى ظهور الساتلايت والجوال والإنترنت الذين تغيّر مع مجيئهم كل شيء. في المقابل استعان مسلسل مرايا ببعض أفكار حلقات طاش مثل حلقة (المقرود) وشبيهتها حلقة (نكشة رفرف)، فكان العملان يقتبسان من بعضهما البعض حتى أصبح التبادل في الأفكار والأطروحات أمراً اعتيادياً بين الأساتذة الكبار وصل إلى حد استخدام ذات الموسيقى التصويرية أحياناً. لكن ما غفل عنه طاش أن مسلسل مرايا قدّم الحياة السورية حياة قاتمة سوداوية جداً، لذلك كان من الخطأ الاستعانة بأسلوب مرايا في تقديم حلقات طاش، فمن يتابع أجزاء مرايا بشكل متتابع يشعر بسوداوية كبيرة يعيشها السوريون من خلال ما قدمه الأستاذ ياسر العظمة وهذا ينطبق على حلقات طاش.
ظهور طاش على الساحة زاد من جودة مسلسل مرايا نتيجة الشعور بالمنافسة وهذا أمر طبيعي، ولذلك وصل مسلسل مرايا ذروته منذ منتصف التسعينيات واستمر حتى آخر أجزائه عام 2013م، بينما ظلت وتيرة طاش تتصاعد حتى وصلت ذروتها في الجزء السابع عام 1999م، حيث كسب طاش كتاباً متألقين أهمهم من وجهة نظر خاصة الأستاذ (عنبر الدوسري) بالإضافة لأهم كاتبين في طاش الأستاذين الكبيرين عبد الله السدحان وناصر القصبي، فهؤلاء الثلاثة قدموا حلقات تعتبر عزفاً رائعاً إضافة إلى أسماء أخرى جميلة يصعب سردها. وكان يقود تلك الأوركسترا المخرج الراحل عبد الخالق الغانم رحمه الله، فمن بعده غابت لمساته الجميلة التي كان يضعها في كل تفصيل من تفاصيل العمل. وهذا لا يقلل ممن أخرجوا العمل من قبله ومن بعده أمثال الأستاذ عامر الحمود والأستاذ محمد عايش والأستاذ سمير عارف وغيرهم ممن جعلوا من طاش وجبة فطور رمضاني دسمة ومليئة بالكثير من الكوميديا والضحك تستمر لذتها حتى مع العشاء والسحور، فقد كانت كل حلقة من حلقات طاش حديث الاستراحات والمجالس واللقاءات العائلية في أوقات العشاء والسحور لتخلق جواً رمضانياً مرحاً طوال شهر رمضان المبارك.
لذلك كوّن طاش قاعدة جماهيرية عربية كبيرة، ولكن وللأسف الشديد بدأت تلك الشعبية تتراجع شيئاً فشيئاً حين فقد طاش بريقه بفقده هويته في آخر أجزائه، فمع توالي الحلقات والأجزاء كان طاش بحاجة إلى التجديد في الطرح والكتابة، لذلك فتح الباب على مصراعيه لكل أنواع الكتابة من الكوميديا إلى التراجيديا، فخسر طاش اهتمام جمهوره العريض الذي لم يهضم هذا التغيير، لأن طاش عندما أراد التنوع في الطرح لم يستعن بأدباء وإنما استعان بكتاب رأي أرادوا تقديم ما يطرحونه في الصحافة من قضايا اجتماعية على شكل حلقات مصوّرة، فغابت الكوميديا أحياناً وجاءت مكانها التراجيديا والعنف، وهذا كان يترك أثراً سيئاً في نفس المشاهد في كل مرة وهو الذي اعتاد أن يكون شهر رمضان شهراً سعيداً من خلال ما يقدمه طاش من وجبات دسمة من المتعة والضحك. ذلك التغيير تزامن مع حملات صحوية كانت تهاجم العمل وتكفّر أبطاله أو تفسقهم في أقل الأحوال مما زاد من حجم الإحجام عن متابعته، بل وصل الأمر إلى عدم تعاون بعض الجهات الحكومية مع منتجي العمل متأثرين بتلك الحملة, لذلك توقف طاش عند الجزء 18 عام 2011م لأنه أصبح يولد ضمن جو مشحون، رغم أنه كان يقدم جرعات توعوية هامة في ذلك الوقت عرف السعوديون أهميتها اليوم، وهذا يعود لبعد نظر الكتاب الذين قدموا تلك الحلقات في ذلك الوقت، ولكن افتقادهم للكتابة الكوميدية أفقد العمل جودته المعتادة لدى جمهوره، مما أفقد طاش هويته وحوله أحياناً إلى مقالة صحفية مصورة أكثر منها عملاً درامياً يفترض أن يقدم الفكر ة بطريقة غير مباشرة. كما أن المزج بين الكتابة الصحفية والأعمال الدرامية تسبب في تشوهات في العمل جعلته يؤصل للسلوكيات السيئة ويمنحها عرفاً اجتماعياً فكان تأثيره سيئاً على المجتمع السعودي، وأظهره كذلك على غير حقيقته للمجتمعات العربية التي لا تعرف المجتمع السعودي على حقيقته. كان أهمها إظهار المواطن ضعيفاً جداً أمام العمالة وخصوصاً الخادمة والسائق مما قوّى موقف هؤلاء على السعوديين وزاد من جرأتهم على مخالفة الأنظمة ومناكفة كفلائهم، وكذلك أظهر اللصوص بموقف قوي أمام المواطن في غياب تام للأمن وهذا خطير على الأمن، وأظهر طاش المعلم بمظهر المتخلف المتسلط أحياناً والضعيف في أحيان أخرى وهذا له تأثير سيىء أفقد المجتمع احترام المعلمين خصوصاً أن ذلك زامن حملة شرسة ضد المعلمين في ذلك الوقت، كما أظهر المواطن السعودي رعديداًعيفاً ذليلاً أمام المسؤولين وهذا أمر سيىء وغير حقيقي، فأساس التعامل بيننا نحن السعوديين قائم على المودة والاحترام أياً كان المنصب والمكانة الاجتماعية والمستوى المعيشي، فالكل يحترم الكل ولا يوجد تفاضل وتمايز بيننا. والحقيقة أن الحديث عن الأخطاء في طاش يطول، ولكن لا حاجة لنا لسردها كلها الآن لأننا رأينا في أعمال الأستاذين عبد الله وناصر ما بعد طاش تحولاً رائعاً واستدراكاً مميزاً في أعمالهما، حيث إنهما تلافيا كل تلك الأخطاء ووضعا كل شيء في مكانه الصحيح وبأسلوب كوميدي مميز إلى جيد بحسب كل حلقة وعمل، فقد قدما أعمالاً رائعة منها على سبيل المثال لا الحصر (مستر كاش وبدون فلتر وهذا حنا والديك الأزرق) التي قدمها الأستاذ عبد الله السدحان وكذلك (أبو الملايين وسيلفي والعاصوف ومخرج 7 وممنوع التجول) التي قدمها الأستاذ ناصر القصبي. وبالحديث عن أعمال الأستاذ ناصر القصبي فإنه لا يمكن لنا أن نغفل أحد أركان التميز في كثير من الأعمال التي قدمها الأستاذ ناصر والذي يعتبر من وجهة نظر خاصة أيقونة كتابة الأعمال الدرامية السعودية حالياً الأستاذ خلف الحربي الذي عزف عزفاً منفرداً في كتابة الأعمال الدرامية وفي كتابة (تتر) الأعمال كذلك على قناة MBC.
ولكن ورغم كل ما تحقق من نجاح متميز للنجمين الكبيرين ناصر القصبي وعبد الله السدحان إلا أن جمهورهما لا زال متعلقاً عاطفياً بطاش وبالثنائية المميزة التي جمعت العملاقين ناصر وعبد الله والتي بدأت قبل ظهور طاش مع أعمال مثل (حكايات قصيرة ورفاقة درب أو دردبنا) وغيرها من الأعمال والمسرحيات، فما نلمسه من الاستبشار الكبير الذي عليه السعوديون في وسائل التواصل الاجتماعي من عودة طاش كبير جداً ويصف الحنين الكبير لعودة الدويتو من جديد.
واليوم يعود (طاش 19) في رمضان هذا العام والجمهور يحمل الكثير من الشوق والحنين للعمل، ولكننا يجب أن نكون حذرين كجمهور من التفاؤل المفرط في هذا الجزء بالذات، فهذا الجزء يواجه تحديات سبق وأن واجهت الأستاذ ياسر العظمة عندما قدّم عمله (السنونو) العام الماضي والذي لقي استبشاراً عربياً كبيراً سرعان ما تحوّل إلى حالة إحباط من العمل الذي سقط سقوطاً حراً وفشل فشلاً ذريعاً. وألخّص أسباب فشل السنونو والتشابه في التحديات التي واجهته وتواجه طاش 19 حالياً في عدد من النقاط ومن وجهة نظر خاصة. أولها أن مرايا انقطع وهو يحمل إرثاً جميلاً في مخيلة جمهوره ومن الصعب مجاراته بعد انقطاع، وهذا يشبه طاش تماماً. وثانيها أن الأستاذ ياسر العظمة يعيش اليوم في بيئة مختلفة لا تشبه بيئته السابقة التي كان يستنبط منها أعماله، حيث إنه يعيش في الإمارات ويحمل الجنسية الإماراتية وعليه الظهور كونه إماراتياً، وهذا ما أظهره تائهاً في عمله، فجاء بفكرة لا تشبه ياسر العظمة لا من قريب ولا من بعيد، فليس باستطاعة الأستاذ ياسر إعادة أفكاره السابقة التي تتميز بالنقد اللاذع لأنه يعيش في مستوى جودة حياة عالية وضمن منظومة تسير بدقة عالية في الجارة الشقيقة الإمارات العربية المتحدة، لذلك لما أراد تقديم عمل مميز يمارس فيه نقده المعتاد في مرايا لم يجد ما ينتقده، وهذا التحدي يواجه طاش 19 لأن المملكة العربية السعودية في 2023م مختلفة تماماً عن 2011م وما سبقها، فالمملكة اليوم دولة عصرية بهية بمستوى جودة حياة عالية تعالج تفاصيل التفاصيل بسرعة بالغة وفق استراتيجيات وآليات هي الأحدث في العالم أجمع في سعي حثيث لتكون ضمن طليعة الدول في كل شيء، فالقيادة السعودية هي من تفتش عن مواطن الخلل وتعالجها ولا تنتظر من أحد أن يضع يده على الأخطاء ويحفزها لمعالجتها، لذا لا يستطيع طاش إعادة إنتاج نفسه بذات أفكاره السابقة، بل يحتاج إلى ابتكار أفكار جديدة وبحذر شديد حتى لا يفشل كما فشل السنونو. أيضاً واجه الأستاذ ياسر فقد الكثير من نجوم العمل الراحلين في مرايا والذين كانوا يعملون معه في تناغم كبير تغمدهم الله بواسع رحمته، مما اضطره لتقديم وجوه جديدة لم يعتد عليها جمهوره فزاد من غربة العمل لدى جمهوره، وهذا أيضاً سيواجه طاش الذي فقد عدداً من نجوم الدراما السعودية رحمهم الله. كما أن الأستاذ ياسر العظمة تقدم كثيراً في السن مما أفقده الكثير من ملامح وهه التعبيرية، فلم يعد باستطاعته تقديم كل الشخصيات التي كان يقدمها في السابق، ولو فعل ما تقبله الجمهور، وهذا الأمر ينطبق على فريق عمل طاش الذي تقدم كله في السن، فمن اعتاد الجمهور عليهم في أجزاء طاش السابقة من ممثلين وشخوص كانوا يؤدونها لم يعودوا قادرين على إنتاج أنفسهم بالشكل المميز الذي كانوا عليه في السابق، وهذا تحدٍّ كبير سيواجه طاش 19 يسعدنا كثيراً أن يتجاوزوه. وقد تكون لطاش ميزة على السنونو وهي أنه سيتمسك بهويته المعتادة مع ذات اسم العمل، فمن المؤكد أن ما يهم جمهور طاش أن يبقى العمل وفق هويته وأن تكون الحلقات كوميدية ما أمكن، وإن ظهرت حلقات رعب فذلك يثري العمل، فقد أحب الجمهور حلقات (لايوجد سوانا في البيت وشويمطة والزار).
نجاح طاش 19 سيعني الكثير لجمهوره وسيعطيهم جرعة روحية تستمر معهم إلى الأبد، لأنهم سيملكون فرصة إعادة الحلقات متى ما اشتاقوا إليها، ولعل فرصة نجاحه تزيد من خلال الدعم الحكومي الكامل كغيره من الأعمال الأدبية والثقافية والفنية، وفشله لا سمح الله سيترك أثراً سيئاً على جمهوره الذين ينتظرونه على أحر من الجمر. كل التوفيق للأستاذين عبد الله السدحان وناصر القصبي ونخبة العمل معهما في تقديم عمل يسكن وجدان كل فرد من جمهورهم إلى الأبد، ونسأل الله أن يلحقنا رمضان المبارك جميعاً وأن يعيده علينا بالأمن والإيمان واليمن والبركات والمسرات والمزيد من النجاحات.
** **
- محمد المسمار
@m_almismar