تعد المنظومة التعليمية الكيان المركزي لأي مجتمع، فبنموها الناضج ينمو الجميع، وبتراجعها تتقهقر خطوات الفرد والمجتمع ويؤولون جميعاً إلى الثبات والتأخر عمن يجاورهم من قريب أو من بعيد ولديهم منظومات نامية وفعالة، وعليه يجب أن تكون المنظومة وأي منظومة متكاملة وشاملة ونوعية وفعَّالة لتخلق الفاعلية في نفس الفرد، وتهيئ له الاستمرارية، وتكسبه الثقة في نفسها وفي كيانها، والدافع لمساعدتها في تحقيق أهدافها.
يقال إن «المعلم الناجح هو من يثق في قدراته، وفي مهنته، وفي منظومته التعليمية» وهي حقيقة تثبتها الدراسات العلمية (Hong et al., 2020; Adams, 2019)، فالسلوك الخارجي والأداء مرتبطان بشكل مباشر بالاعتقادات الداخلية عن المهنة والمنظومة بجميع عناصرها البشرية والمادية. وتعد مشكلة عدم ثقة المعلمين في منظوماتهم من القضايا المعقدة والتي ربما لم تدرك جهلاً بها، أو توارى ويتم استجهالها قصداً لافتقار الحلول أو استحالة تحقيقها بناءً على عجز في مكان آخر مرتبط رغم أن مسألة الثقة لها تأثير كبير على فعالية نظام التعليم والاستقرار الوظيفي، وبشكل أو بآخر دعم المجتمع.
المعلمون بالنسبة للنظام التعليمي وفي أي بقعة من الأرض سواء أكان فيها التعليم رائداً أو متراجعاً هم العمود الفقري، وثقتهم في منظومتهم وقادتها أمر بالغ الأهمية ليس لهم فقط وإنما لكل ذلك الكيان انطلاقاً من رسالته ورؤيته إلى دعمه في الميدان. ولسوء الحظ والطالع، يفتقر العديد من المعلمين اليوم إلى الثقة لا نقول في أنفسهم والتي يمكن أن تكون كذلك أيضاً كنتيجة وسبب، وإنما بشكل عام في مهنتهم داخل المدرسة وخارجها. إذ تشير العديد من الدراسات إلى أن ثقة المعلم بذاته ومنظومته لها دور كبير في التعامل مع الإدارات التعليمية، وتنفيذ القرارات والالتزام بها. كما تلعب دوراً تحفيزياً نحو التطوير المهني والاستمرارية فيه للوصول لأحدث أساليب وطرائق التدريس والتقييم، وبالتالي فهي ترفع الكفاءة للمعلم ويصب ذلك في التعامل مع الطلبة ودعمهم لرفع مستوياتهم التحصيلية وتنمية الاتجاه الإيجابي نحو التعلم.
لا تختلف مسببات نمو أو انعدام ثقة المعلمين في منظومتهم التعليمية حسب الجغرافيا؛ لأن التعليم هو التعليم في شرق المعمورة وغربها، فالمسببات في الغرب هي نفسها المسببات في الشرق، وكذلك عوامل النمو. وفي ذلك يشير كتاب «نحن نثق في المعلمين: الطريقة الفنلندية لمدارس عالمية المستوى» In Teachers We Trust: The Finnish Way to World-Class Schools إلى أن تشكيل الهوية الإيجابية، والعميقة للمعلم تنطلق من ثقتهم في قادتهم في الفرق والمجموعات، وأن هذه الثقة لا تتطور بالمصادفة وإنما تأتي تتشكل من عوامل مهنية وإنسانية وغيرها.
والسؤال الأبرز ما الذي يتسبب في انعدام ثقة المعلم في منظومته؟ الإجابة عن هذا السؤال طويلة رغم بساطتها، وسوف نحاول تلخيصها في نقاط رئيسية. نرى بأن أحد الأسباب الرئيسية لانعدام الثقة هو الانفصال المتصور بين قيادات المنظومة والمعلمين. إذ غالبا ما يشعر المعلمون أن المسؤولين في قمة الهرم أو في وسطه بعيدون عن الواقع الضيق في الميدان، ونعني بذلك الإطار المدرسي، وأن قراراتهم تستند إلى تطلعات أكبر من الميدان وبنيته، وتراعي في ذلك القرارات والارتباطات العالمية. كما أن غياب المشاركة والاستماع للآراء يعد من المسببات ذات التأثير، فالمعلمون في الميدان يرون أنهم منفذون فقط وعليهم تحمل تبعات ذلك وحدهم. ومن جانب آخر يمكن أن يفقد المعلمون ثقتهم في منظومتهم من خلال ممارسات تحملهم نتائج ليسوا سبباً فيها، وذلك ما يحدث في تأخر كتب المقررات الدراسية، وغياب الأدوات والمواد والوسائل التعليمية. وفي ذات سياق الأسباب، وحسب طبيعة مهنة التعليم، يرى المعلمون بأنهم يستحقون معاملة أفضل وذات طابع خاص عن سواهم من الموظفين في جوانب الإجازات غير المرنة والمجبرين على أخذها في وقت ربما لا يناسبهم من النواحي الشخصية والأسرية وغيرها. وأن طبيعة عملهم من حيث التحضير للدروس والتصحيح للاختبارات واعداد الأنشطة الإثرائية والخطط العلاجية للطلبة، والمهام الإدارية التي يمكن أن توكل لهم في مدارسهم، وزيادة عدد الحصص والمهام كل ذلك يلزمهم بشكل أو بآخر للعمل في المدرسة وخارجها. كما أن هناك سبباً جوهرياً لفقد الثقة ويتمثل في حرمان الموظف معلماً كان أو غيره من حقوقه في الترقيات أو التطوير المهني بالمماطلة والتأخير لأسباب غير واضحة أو لأسباب يراها المعلم مجحفة في حقه.
وكنتيجة لتلك الأسباب، تنعدم أو في أحسن الظروف تنخفض ثقة المعلمين في منظومتهم، مما يتسبب في ممارستهم لمهنتهم بروح سلبية وتوجهات مملوءة بالكدر والضبابية نحو تقبل القرارات وتنفيذ المهام كما ينبغي أن تنفذ و وفق ما تم التخطيط لها. وكنتيجة متسلسلة يبحث المعلمون عن سبل للهجرة من ميدان المدارس إلى ميدان تنخفض فيه المهام والمسؤوليات، ويرتفع فيه التمكين وإن كان خارج تخصصه ودائرة اهتماماته، فهو لا يخالف أن يبقى موظفاً في منظومته، ولكن دون إقرانه بصفته معلماً، وهذا أمر فيه من التعقيد والدلالات الشيء الكثير.
الحلول لمثل هذه المشكلة ليست سهلة، ولا يمكن أن تشرق مع الشمس بعد الاعتراف بها ليلاً. لنجاح المنظومة التعليمية ولإكساب المعلم الثقة فيها، يتطلب الأمر اعترافاً بالمشكلة صباحاً ومساءً دون تبريرات، ويتبع ذلك تخطيط محكم قائم على الحوكمة الفعلية الحقيقية للأداء المؤسسي من جهة، والاستشراف للمستقبل، ورؤى ذات بعد، وتفكير وتدخلات استباقية من جهة أخرى. وعلاوة وكعربون للفاعلية والجدية الالتزام بعودة الحقوق، وتخفيف القيود المعيقة للتطوير المهني الحر. النظام التعليمي لطبيعته لا يحتمل التعامل فيه بأسلوب التجربة والخطأ، لأن الخطأ يترتب عليه تبعات يتطلب إصلاحها سنوات.
في الختام، فإن مشكلة عدم ثقة المعلمين في منظومتهم هي قضية خطيرة، ويجب الاعتراف بها والعمل على حلها سريعاً؛ لأن لها عواقب بعيدة المدى على التعليم وما يرتبط به. ثقة المعلم هي ورقة التوت، وبسقوطها يتصدع النظام وتتقهقر خطواته، وتكون المنظومة في شقاق، فلا تسقطوها.
** **
سعيد محمد راشد الكلباني - باحث دكتوراة في جامعة محمد الخامس - الرباط - سلطنة عمان