شهدت السيرة الذاتية في الآونة الاخيرة حضورًا كبيرًا في الساحة الإبداعية والنقدية لعل آخرها ملتقى نادي القصيم الأدبي الذي سبقه ملتقيان في نادي جدة الأدبي ونادي الرياض الأدبي.
ومن يحضر إلى معارض الكتاب يلحظ فتنة هذا الجنس سواء على مستوى الإبداع والنشر أو على مستوى القراءة والطلب.
فهل تأخذ السيرة الذاتية المكان الذي أخذته الرواية من الشعر والتاريخ في نهايات القرن الماضي وبدايات هذا القرن، وإن كان ذلك لا يلغي جمالياتها وقوة حضورها.
لعل في هذا السؤال ما يحمل إجابته؛ ذلك أن فتنة السيرة الذاتية النصية تكمن في أنها تقع في منطقة التقاطع بين التاريخ والتخيل، وبين اللغة السردية واللغة الشعرية، وما تستوعبه من تداخل الأجناس القريبة منها كاليوميات والمذكرات، أو الأجناس البعيدة كالشعر والأمثال والحكايات الشعبية وألعاب الطفولة وغيرها، مما يجعله نصًا مختلفًا ومحفزًا للقراءة.
وافتتان القارئ بها يأتي من افتتنانه -أولًا- بمؤلفها الذي تشترط له في العادة أن يكون قد بلغ مبلغًا من الحياة والتجارب والشهرة يشعر أنه يسوغ له كتابة سيرته، كما أن من إغراءاتها للقارئ أفق توقعه؛ فهو ينتظر أن تكشف له عن جوانب حميمية، واعترافات، ومكاشفات، عن المقروء له؛ لأن السيرة الذاتية بدونها تفقد جوهرها وتميزها الأجناسي، وأن تكون تلك الحكايات والمواقف صادقة إلى حد كبير بحكم وعيه بالميثاق السيرذاتي الذي يجعل الذات أصدق من يكتب عن ذاتها.
وثالثة الأثافي في موقد الفتنة بالسيرة الذاتية وانتشارها: بما يكون عند الكاتب نفسه، إذ تسوغ له قول ما لم يستطع قوله، وما يريد أن يعرفه القراء عنه في كثير من منعرجات حياته وانكساراتها ومضايقها التي ربما لم ير منها القارئ إلا قمة جبل الجليد، ومجرد الحكي الاستعادي الذي يمارسه يعيد له حياته، بل إنه الهروب من حقيقة الموت الذي يراه بعض نقاد السيرة الذاتية هو محرك كتابتها، فالكاتب يمارس الكتابة برغبة لاتقل عن رغبة القارئ وإن ادعى مسوغات أخرى لكتابتها.
إن جنس السيرة الذاتية يثبت أنه جنس فريد في ذاته وفي نفعيته الإبداعية والبراجماتية للقارئ والكاتب والناشر والساحة الأدبية والإنسانية بوجهٍ عام، وإنه لمن حق الأجيال أن يدون المبدعون في كل مجال مجالات الحياة سيرهم الذاتية، وهو ما نادى به بعضهم، لأن اللغة اجتماعية بطبعها، وقراءة التجارب الواقعية تزيد القارئ وعيًا ووضوحًا في الأفكار والرؤى، والفتنة التي تشهدها السيرة الذاتية على مستوى التأليف والمقروئية والانتشار فتنة بمعناها الجميل، والقارئ أصبح يملك من الكفاءة القرائية ما يمكنه من تلقي الجيد وإطراح الرديء، والدليل أن سيرًا ذاتية مضى عليها زمن لا تزال تواصل طبعاتها وتنفذ.
** **
- د.عبير بنت حسين الحسين