د.محمد بن عبدالرحمن البشر
حلَّ علينا شهر رمضان، شهر البر والإحسان، والتضرّع للرحمن، شهر تراحم وسخاء، وكرم وعطاء، شهر ترتفع فيه الأخلاق الحميدة، والقيم المجيد، ويظهر فيه التسامح بين الأباعد والأقرباء، والتغاضي عن الأخطاء، والعفو عن الزلل، والتآخي بلا ملل، شهر يتجه فيه المسلمون إلى الحي القيوم راجين ما عنده من خير لا ينفد، وكرم لا يحصى ولا يعد، وفيه يطلبون الثواب، فلا يخلو الإنسان من الزلل والهفوات، فالحسنات يذهبن السيئات، لا يمل الإنسان فيه ولا يكل من قراءة القرآن، ومناجاة الديان، طلباً للمغفرة، والهداية لأحسن الأعمال، والتوفيق في الدنيا والآخرة {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
يقول أنس إن أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية، ويقول ابن كثير في تفسيره إن هذه الدعوة جمعت كل خير في الدنيا، وصرفت كل شر، فهي تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب حسن، وسنة جميلة وأعمال حسنة تكون سبباً له في دخول الجنة، وحماية له من الفزع الأكبر، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة، كما تكون سبباً في تيسير أمور الدنيا، وقال القاسم بن عبد الرحمن بن عطية إذا أعطى الله الإنسان قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وجسداً صابراً فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووقي عذاب النار، وأقول اللهم اجعلنا ممن أعطي فشكر، وابتلي فصبر، بعد أن آمن بالله وذكر.
حلَّ رمضان وأخذتنا الذاكرة إلى رمضان الذي مضى، وكأن ما بينهما بضعة أيام لا عدة شهور، وقد واجه البعض منا في تلك الفترة، تفريج هم، ونجاة غم، وتيسير أمر، وقضاء دين، ورفع بلاء وبعض آخر غير ذلك، وهذه حال الدنيا لا تدوم على حال لأي من البشر، قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} أي أن هناك عسر ويسر، والعسر لا يدوم - بإذن الله-، فما من عسر إلا وتبعه يسر لمن فوّض أمره إلى الله، والخير فيما اختاره رب العباد، لقد مرت في هذه الفترة أحداث جسام، فقامت حروب مات بسببها أعداد كثيرة من البشر، وهدمت مدن وقرى، وهجر ملايين، وأصيب مئات الألوف، كما وقعت زلازل ومحن، ذهبت بسببها مدن وقرى بأكملها، ومات بسببها عشرات الآلاف من البشر، وتشرّد ملايين، وأصيب مئات الألوف، وهكذا هي حال الدنيا، وما نقول إلا رحم الله من مات، وألهم من عاش الصبر والسلوان، وندعو الله أن يعوِّضه عمَّا فاته خيراً في الدنيا والآخرة يقول الشاعر:
هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ
مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ
وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ
وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ
ويقول شاعر آخر:
ما الدهر إلا غدوة ومساءُ
يتعاقبان وشدة ورخاءُ
ومسرة ومضرة وحلاوة
ومرارة وسعادة وشقاء
ومساكن ومقابر وفوائد
ومصائب وسلامة وبلاء
منقلب طول المدى متلون
أبدا كما تتلون الحرباء
قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} وقال تعالى: {مَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}، وقال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}، آيات عظيمة تعلمنا أن تقوى الله سبحانه وتعالى هي المخرج من كل غم وهم وألم بتوفيق من الله ورضوانه، والتقوى تتطلب مخافة الله أولاً، وتلمس ما يوصل إلى رضاه، ومن ذلك الصيام والقيام والصدقة على بصيرة دون تطرف، وخروج عن الدين الحنيف السمح، الذي كان يسير عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، لهذا فإن هذا الشهر الكريم يعتبر فرصة مواتية لتلمس التقوى ليجعل الله للمرء مخرجاً من كل سوء، وأن يرزقه من خير الدنيا والآخرة دون احتساب، وعليه فإن الإكثار من التضرع إلى الله في هذا الشهر الكريم، واللجوء إليه وتفويض الأمر له، سبيلاً من سبل التقوى التي تفتح -بإذن الله - أبواباً مؤصدة، كان يظن المرء أن إشراعها عسير، وأن مفاتيحها عند الخلق يسير، ويغيب عن إدراكه أنها بيدي الخالق، المانع والرازق، ولنا أن نختم بقول الإمام الشافعي:
عليك بتقوى الله إن كنت غافلاً
يأتيك بالأرزاق من حيث لا تدري
فكيف تخاف من الفقر والله رازق
فقد رزق الطير والحوت في البحر
من ظن أن الرزق يأتي بقوة
ما أكل الطير شيئاً مع النسر
وقال أيضاً:
وَرِزقُكَ لَيسَ يُنقِصُهُ التَأَنّي
وَلَيسَ يَزيدُ في الرِزقِ العَناءُ
وَلا حُزنٌ يَدومُ وَلا سُرورٌ
وَلا بُؤسٌ عَلَيكَ وَلا رَخاءُ
إِذا ما كُنتَ ذا قَلبٍ قَنوعٍ
فَأَنتَ وَمالِكُ الدُنيا سَواءُ