د. عبدالحق عزوزي
لا حديث اليوم في أوروبا وفي القنوات التلفزية الغربية إلا عن المادة 49.3 من الدستور الفرنسي... فقد قامت الحكومة الفرنسية باللجوء إلى هاته المادة لتمرير مشروع قانون إصلاح نظام التقاعد، من دون عرضه على التصويت في الجمعية الوطنية (مجلس النواب)، وذلك ساعات بعد المصادقة عليه في مجلس الشيوخ (الغرفة الثانية)؛ وهاته الحيلة الدستورية التي لا سابق لها تدل على شيئين اثنين:
- هذا القرار، الذي يعود للرئيس إيمانويل ماكرون، يدل على عدم تمكن الحكومة الفرنسية من حشد أكثرية في الجمعية الوطنية؛ إذ يفتقد الحزب الرئاسي الحاكم وحلفاؤه من اليمين والوسط إلى الغالبية في الغرفة الأولى، مما أثار مخاوف الحكومة من عدم قدرتها على حيازة عدد الأصوات الضروري لإقرار القانون.
- تمر المؤسسات الدستورية الفرنسية في أزمة كبيرة بعد هذا القرار؛ إذ المعلوم أن البرلمان في الدول الديمقراطية هو الذي يمارس السلطة التشريعية، وهو الذي يصوت على القوانين، ويراقب عمل الحكومة، ويقيم السياسات العمومية...
أما وأن تقوم الحكومة الفرنسية باللجوء إلى المادة 49.3 من الدستور لتمرير مشروع قانون إصلاح نظام التقاعد المثير للجدل، والذي ينص البند الرئيسي فيه على رفع سن التقاعد القانونية من 62 إلى 64 عاماً، من دون تصويت نواب الجمعية الوطنية، فهذا نشار في أدبيات فصل السلط في الدول الديمقراطية.
هذا من الجانب القانوني؛ أما من الجانب الإستراتيجي، فإن لجوء الحكومة إلى هاته المادة الدستورية، سيفاقم لا محالة رفض هذا الإصلاح من كل الشرائح المجتمعية الفرنسية، وهي ما عبرت عنه بخروجها عن بكرة أبيها في مظاهرات حاشدة ومعبرة عن درجة السخط تجاه النخبة السياسية في الحكم؛ وهذا دون نسيان الإضرابات اللامنقطعة، حيث إن من إحدى تداعياته، إضراب جامعي القمامة، حيث نقلت وسائل الإعلام الدولية صوراً فظيعة للقمامات وهي تغطي أرصفة العاصمة الفرنسية التي تعد إحدى أبرز الوجهات السياحية في العالم، في الوقت الذي عمت فيه روائح كريهة كل أحياء العاصمة والمدن الفرنسية.
إذن يثير هذا القانون جدلاً واسعاً في البلاد منذ ثلاثة أشهر، وينزل مئات الآلاف من الفرنسيين إلى الشوارع باستمرار لمطالبة الحكومة بسحب المشروع؛ ولم يحظ اللجوء إلى المادة 49.3 حتى بإجماع الكتلة البرلمانية للحزب الحاكم في الجمعية الوطنية.
لكن الرئيس الماكرون وضع إصلاح نظام التقاعد في صلب الإصلاحات التي يريد إنجازها خلال ولايته الثانية والأخيرة، معتبراً ذلك أمراً حتمياً للحفاظ على التوازنات المالية لصندوق الضمان الاجتماعي.
ويقرأ نائب رئيس تحرير إذاعة مونت كارلو الدولية مصطفى طوسة في إصدار مقترحات مختلفة لحجب الثقة عن الحكومة رسالة مفادها أن المعارضة بمختلف حساسياتها في البرلمان ستجعل ما تبقى من سنوات ماكرون في الإليزيه مليئة بالمطبات. وقال: «ماكرون صب الزيت على النار في علاقته بالمعارضة عندما حرمها من مناقشة مشروعه الإصلاحي بالبرلمان وتمريره بالقوة. الأحزاب اليسارية واليمينية بالجمعة الوطنية على حد السواء ستعمل على أن ينهي ماكرون ما تبقى من ولايته بصفة رئيس يحكم ولا يسود». وأضاف: «هذه الأحزاب ستلجأ حتماً إلى اتخاذ مواقف انتقامية ضده».
وقد لخص المحلل السياسي الكبير أنطوان بريستييل هاته النتيجة لوكالة الأنباء الفرنسية، عندما قال: «إن المادة 49.3 في خيال الفرنسيين مرادفة للوحشية، إنه الشعور بأن الحكومة لا تصغي... وفي الشارع، هذا سيُعطي زخماً جديداً للتعبئة». ولربما ستتجاوز الاحتجاجات عنف وزخم ظاهرة السترات الصفراء التي يتذكرها الجميع... فهناك حديث عن تشكل تنسيقيات ومجموعات مستقلة بدأت تحضر لاحتجاجات من المرجح أن ترافقها أعمال شغب على صعيد فرنسا...
ولكن السؤال الذي يجب طرحه: هل هذا الإصلاح يجب أن تتغاضى عنه الحكومة الفرنسية؟ إذا علمنا أن الحكومة الفرنسية اختارت رفع سن التقاعد القانوني استجابة للتدهور المالي الذي تشهده صناديق التقاعد ولشيخوخة السكان، فإن الجواب يعطي الحق للحكومة الفرنسية لأن لديها نظاماً غير قابل للحياة، ولكن بسبب فشلها في معالجة المعضلة في الأوقات المناسبة كما فعلت ذلك دول أوروبية أخرى، فإن عليها أن تنتظر مقاومات اجتماعية كلما تبنت مقاربات جديدة.