أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: سئلت مرة عن نمط حياتي في شهر رمضان المبارك فقلت: ليست لي في رمضان شرفه الله حياة رتيبة محددة، وإنما مر في عمري أنماط متعددة، وحرصت بأخرة على أن أعيد نظام حياتي في شهر رمضان إلى أسعد وأبرك ما ألفته منذ بلغت الحلم في قريتي شقراء عمرها الله، وكان لي من هيبة والدي (عمر) رحمه الله أعظم مؤدب وموجه، ومنذ دمدمت عليه التراب عام (1398هـ) أحسست بالفراغ الكبير، وأحسست بالطفولة الحقيقية وأنني بحاجة إلى شدته وكثرة تقريعه.
وقد حصل في حياتي تأرجحات وتعرجات، فآليت على نفسي أن أعود ولو بالتدريج إلى نصابي وإلى حياة النشأة الفطرية المباركة في القرية السعيدة.
كان والدي كثير الدعاء لي، وكان في مرضه وقبل أن يفقد شعوره يتقطع موعظة وتوصية بصلاتين تثقلان جماعة على المنافقين، ولن يكون الابن باراً مجاب الدعوة في والديه إلا باستصلاح السيرة ولو تدريجاً، وهذا استطراد لا بأس به.
قال أبو عبد الرحمن: لا أذكر أيام رمضان في الطفولة وإنما أذكرها منذ الحلم، كنا بعد الإفطار وصلاة المغرب نصعد السطح مع والدي وأسرتي ونتمدد مستلقين وجوهنا للسماء وزرقتها ونجومها المتلألئة وقد عزلنا الغنم من الراعي وربطناها في مرابطها بنفس السطح الذي نستلقي فيه، وعواء الكلاب يتسرب إلينا من البادية.
وبعد استلقاء لا يتجاوز نصف ساعة نعمد إلى المصاخن فنجدد الوضوء على عجل ويسر، ثم نتبخر بالجاوني، وأحياناً قليلة نتبخر بالعود الأزرق إذا تيسرت الحال.. ثم نعمد إلى المسجد ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً فنحضر الدرس والتراويح والقيام.. ثم نعود إلى السطح السعيد فيناولنا الوالد فذات من التمر اليبيس أو الأقط أو العنب أو البطيخ أو لحيمات ذخرها من وجبة الفطور ويوزعها بالسوية، ثم ننام على التو ونصحو مع أذان الفجر الأول ونتسحر بما تيسر من حليب وخبز أو لبن وتمر، ولا نعاود النوم إلا في القيلولة.
أما في العشر الأواخر فربما لا يزيد نوم الليلة على ساعة ونصف ساعة. أما ليلة العيد فنحييها بالسهر والترتيب للعيد، وفي الضحى يواصل الطلاب دراستهم ويواصل الكبار حرفتهم، وما قبل أذان العصر إلى أذان المغرب جلوس في المسجد وتلاوة قرآن، وكل واحد تزيد سعادته بعدد ختمه للقرآن. أحذر هذا الديدن السعيد بعشر سنوات ولا يزال يرن في أذني تلاوة حمد بن عباس، وشقران، وسليمان بن علي رحمهم الله جميعاً.
وأنتم لم تجربوا علي كذباً وإنني أصدقكم الحديث بأنني إذا تذكرت ذلك العهد تمزق قلبي حسرة وحننت حنين الإبل. وأكبر ما فقدته أشياخ من العوام بيض الوجوه، عريضو اللحاء، شققت أيديهم الحرف، لا يعرفون بنوكاً ولا أسفاراً ولا سهراً ولم يرفلوا في نعمة الله ساهين لاهين.
رحمهم الله وجمعني بهم في دار كرامته، فإنني أشهد الله على محبتهم.. الله أكبر ما أجمل مجالسهم وما أحلى حديثهم وما أطيب قناعتهم، نضر الله وجوههم، وأعاذنا من الفتنة بعدهم.
قال أبو عبدالرحمن: ثم انتقلت إلى الرياض وغطست مع الأدباء والظرفاء، وكثرت أسفاري وسهري وسمري في ليالي رمضان.. يذهب النهار نوماً والليل سمراً والصلاة عن ثقل وتباطؤ، وربما نشطت للعمل أول الشهر وآخره. إلا أن هذه الحياة الرمضانية بسلبياتها وإيجابياتها الأقل ذات بون شاسع عن رمضانات النشأة بشقراء السعيدة.ثم أطلعتني المرأة على شعر أبيض يتكاثر وأغازله بالحناء، وأحسست بضعف الشيخوخة في جسمي، ووجدتني في كل لحظة أزداد علماً بدين الله إلا أني أزداد تلاشياً وكسلاً في العمل. وظلال العشر سنوات المباركات يغازل وجداني وينغص علي سهوي، فأول خطوة هجرت الأسفار منذ سنوات، ثم وطنت نفسي على ترك السهر والمنادمة في ليالي رمضان، وأن أهتبل ما بين صلاة المغرب وما بين أذان العشاء، وما بين الساعة التاسعة والنصف والثانية عشرة للقراءة والكتابة، ثم أنام ثلاث ساعات وأنام الصفرة خمس ساعات.
وما عدا ذلك أحاول استعادة بعض من أمجاد سنوات مضت، وبقيت في حياتي صغائر وتوافه، ومن تلك التوافه أنني عجزت عن الإقلاع عن ظرف الأدباء والفنانين في عواطفهم وأخيلتهم، وعجزت عن أن أطلق الأدب والفن وأتجه للعمل الجاد.. وحاولت مكافحة صغائر الذنوب بالحسنات الصغيرة التي أستحضر النية فيها.. فإن ختم الله لي بحياة جادة فذلك ما أرجوه ولا يزال لساني رطباً بالدعاء، وإن بقيت فيّ أثارة من لهو الأدباء وتظرفهم فإنني على يقين بأن الله يستحيي من أن يعذب ذي الشيبة الموحد.
قال أبو عبد الرحمن: وأنا ذو الشيبة الموحد إن شاء الله ما خطر على قلبي بفضل الله لحظة شك، والله المستعصم فيما بقي، وفي المأثور القدسي أن الله إذا أحب عبده ابتلاه بالمصائب ليطهره من المعائب.وحياتي كلها كفاح وكدح وكثرة رعية وهموم دنيوية وفوادح فقد الأحباب لا سيما الوالدين وغَبنُ الناس وقالتهم ؛ فكل هذه أحتسبها في جنب الله وأرجو أن تكون تطهيراً. وأسأل الله السلامة في الدنيا والآخرة والعفو عما سلف والعصمة في بقية عمري وأن ألقى ربي بعد عمر مديد عامر وأنا مشتاق إلى لقائه غير مستوحش، وإلى لقاءٍ قادم إنْ شاءَ الله تعالى، والله المُستعانُ.
** **
(محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -