قوتان إقليميتان كبيرتان ومؤثرتان في مجريات الشؤون الإقليمية والدولية، على طرفي نقيض، السعودية وإيران، التقتا على طاولة المفاوضات في بكين خلال الفترة من 06 إلى 10 مارس 2023م، ووقع رئيسا وفديهما البيان الثلاثي المشترك، الصيني-السعودي- الإيراني، في 10 مارس 2023م، لتدشين بداية مرحلة جديدة بين كبريات القوى الإقليمية السعودية وإيران لعودة العلاقات الدبلوماسية بينهما، وذلك بعد صراع محتدم وقطيعة ممتدة دامت 7 سنوات، ألقت بظلالها على كل القضايا العالقة بالمنطقة، وعلى حالة السلم والأمن الإقليميين، وكذلك بعد استضافة بغداد خمس جولات من المحادثات عادت الوفود خلالها أحيانًا خالية الوفاض، وإن ظلّت المواقف الرسمية إيجابية من دون العبور نحو مرحلة تُحدث اختراقًا، لتأتي الوساطة الصينية وتضع أسساً لانطلاقة جديدة في علاقات الطرفين الأمنية والسياسية والاقتصادية. يحظى الاتفاق التاريخي الكبير بأهمية إقليمية وعالمية بالغة الدقة، بحكم الأوزان النسبية الكبيرة للدولتين، وبحكم تشابكات أدوارهما في عديد من الساحات الإقليمية، وتأثيراتهما الكبيرة في القضايا والدولية وفي تحديد ملامح وشكل ومستقبل النظام الدولي، ولذلك يطرح الاتفاق عددًا من التساؤلات تسعى الورقة لتفسيرها: هل هذا تحوّل في المواقف الإستراتيجية الإيرانية عند قبول الاشتراطات السعودية؟ أم أنه تحوُّل تكتيكي لاعتبارات تتعلق بالظروف الداخلية والخارجية الضاغطة على إيران؟ وما العوامل الحاسمة التي دفعت المملكة للقبول بالجلوس على طاولة المفاوضات مع طهران بل والقبول بعودة العلاقات الدبلوماسية؟ ثم ما التداعيات المحتملة ومكاسب الأطراف من الاتفاق على الصعيد الداخلي للجانبين وعلى المستويين الإقليمي والدولي؟ وما أبرز المواقف وردود الأفعال الداخلية والإقليمية والدولية ثم ما مستقبل ومآلات الاتفاق؟
أولاً: أبعاد الاتفاق الدبلوماسي السعودي الإيراني
1 - خلفيات ومرجعيات الاتفاق
قاد ملف مفاوضات الاتفاق من الجانب السعودي عضو مجلس الوزراء ومستشار الأمن القومي السعودي مساعد بن محمد العيبان ومن الجانب الإيراني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني، وللشخصيتين وزنهما وثقلهما لدولتيهما. وحضره من الجانب الصيني كبير الدبلوماسيين الصينيين وعضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني رئيس مكتب اللجنة المركزية للشؤون الخارجية وانغ يي، ما يعكس تأكيدًا للجانب الأمني للمملكة واهتمامًا سعوديًا بالغًا بالملف الأمني السعودي. قد لا يكون الإعلان مفاجئًا في دهاليز الدبلوماسية الإقليمية والدولية، فالسعودية وإيران بالفعل بدأتا بحلول عام 2021م في الانخراط في محادثات مباشرة منخفضة المستوى، تناوبت على استضافتها كل من العراق وسلطنة عمان، وتناولت المحادثات التي بدأت في عهد رئيس الوزراء العراقي السابق، مصطفى الكاظمي، سبل تخفيف التوتر بين عاصمتي الدولتين، واستئناف العلاقات الدبلوماسية وتسوية الخلافات الناشئة عن دور إيران في عدد من ملفات التدخل الإيراني الإقليمي. ورافقت الجولة الخامسة والأخيرة، حتى تاريخ إصدار التقرير، التي عُقدت في بغداد أجواء إيجابية ورسائل متبادلة من أجل حلحلة بعض القضايا العالقة.
ما حققته الصين على مستوى المصالحة بين المملكة العربية السعودية وإيران لم يكن وليد اللحظة، إذ جاء بعد سلسلة من المحاولات منذ سنوات، قامت بها بكين في هذا المسار، ففي مارس عام 2017م أعلنت الصين استعدادها للتوسط بين الجانبين في مبادرة من جانبها، ومن ثم أعادت الكرة عام 2019م، وفي 2022م عقدت الصين ودول خليجية قمة شهدت دعوة بكين لطهران إلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى».
وهو ما شكل انزعاجًا إيرانيًّا ودافعًا لقيام رئيسها بزيارة لبكين من أجل التأكد من موقف بكين تجاه إيران، وشكّل أيضًا دافعًا للمضي قدمًا في المصالحة بين الأطراف. الجدير بالذكر أن هذا الاتفاق سبقته اتفاقيتان وقعتا سابقًا بين الطرفين عامي 1998م و2001م، الأولى تتضمن عودة العلاقات والتعاون في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب، وهي الموقعة حسب البيان المشترك، والثانية تتناول ترتيبات وتعاونًا أمنيًّا بين الطرفين.
2 - مضمون الاتفاق ودلالاته
في قراءة في أهم بنود الاتفاق يتضح لمعهد رصانة أمران، يشكلان بمجملهما أرضية ثلاثية مشتركة من الممكن البناء عليها وتطويرها وتفعيلها لإنجاح مستقبل العلاقات السعودية الإيرانية، وإيجاد حلول جذرية لملفات الخلاف والتباعد المكدسة: الأول، يتعلق بتعهدات متبادلة بين الطرفين، وهي تشمل ما كانت الرياض وباقي دول المنطقة تسعى إليه من عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام سيادة الدول، وحسن الجوار بين دول المنطقة تسعى أطراف الاتفاق بذلك لإعطاء إعلان استئناف العلاقات بين الرياض وطهران جدية ومصداقية، باعتبار الخلافات بينهما والشكاوى السعودية بشكل خاص ارتبطت في غالبيتها بممارسات إيرانية غير مقبولة في هذا الشأن، ويبقى التساؤل القائم حول التفسير الإيراني لهذا البند غير واضح، وما إذا كانت ستقصر تدخلها في شؤون المملكة عن طريق اليمن، أم أن الأمر يتعلق بسلوك دولتها في مجمله، بما في ذلك سلوك ميليشياتها المذهبية المنتشرة في المنطقة.
أما الأمر الثاني فهو إعلانات إجرائية، وتتضمن إعادة العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارتين في طهران والرياض والقنصليتين في مشهد وجدة خلال مدة أقصاها شهران، وهذه المهلة لاستئناف العلاقات الدبلوماسية يمكن قراءتها في ضوء منح فرصة زمنية مناسبة لامتحان إيران قبل استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، وسيكون سلوك إيران خارج حدودها موضع مراقبة دقيقة خلال هذه المدة الممنوحة من الأطراف الثلاثة.
بجانب ذلك، جرى الاتفاق على إعادة تفعيل الاتفاقية الأمنية والتجارية والاقتصادية بين الدولتين، التي وقعت عامي 1998م و2001م كما ذكرنا آنفًا، قبل أن تُجمّد تلك الاتفاقات جراء تنامي حالة التوتر التي سادت علاقات الجانبين خلال السنوات الأخيرة. ولاستئناف الاتفاق الأمني الموقع بين الجانبين أهمية خاصة باعتبار أن أغلب الخلافات بينهما ترتبط بقضايا الأمن القومي، وأن الأجهزة والمؤسسات الأمنية هي دائمًا الأكثر حذرًا وترددًا في فتح قنوات اتصال سياسية قبل الاطمئنان للنيات والأفعال من خلال اتخاذ خطوات محددة وملموسة، ومن ثم يوفر تفعيل الاتفاق الأمني ثقلًا سياسيًّا لإعلان استئناف العلاقات ودعم المؤسسات الوطنية المحافظة والمتحفظة له.
ومن المؤشرات الهامة في هذا الاتفاق أن الحوار السعودي الإيراني، واتفاق الطرفين على استئناف علاقاتهما الدبلوماسية جريا خارج المنطقة، وبالتحديد في العاصمة الصينية بكين على عكس الحوارات الأخرى الممتدة منذ عام 2021م التي جرت في بغداد أو مسقط. وتأتي الاستضافة الصينية لهذا الاتفاق ارتكازًا على عدة أمور، ستذكر تفصيلًا في المحاور التالية للتقرير، ولكن بمجملها قائمة على المصلحة الصينية بالدرجة الأولى والمتعلقة بالأهمية الإستراتيجية للشرق الأوسط، وبالتحديد ما يتعلق بأمن الممرات البحرية وأهميتها للاقتصاد العالمي. كما تجب الإشارة إلى أن الصين سبق أن اقترحت مبادرة من خمس نقاط لتحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط من خلال الحوار.
ثانيًا: العوامل الحاسمة لسرعة توقيع الاتفاق بوساطة صينية
يأتي الاتفاق التاريخي الكبير بين السعودية وإيران في ظل توقيت حساس ودقيق للغاية تشهده الساحتان الإقليمية والدولية على خلفية التحدي الروسي للقواعد الدولية المستقرة منذ نهاية الحرب الباردة، بإعلان الكريملن عملية عسكرية ما زالت مستمرة- ضد أوكرانيا المحسوبة على المعسكر الغربي، واحتشاد الغرب الأوروبي والأمريكي ضد روسيا، وكذلك الانسحابات العسكرية الأمريكية من الأقاليم الجيو-إستراتيجية التي تهم الفواعل الإقليمية والدولية بحكم أهميتها الأمنية ومواردها الاقتصادية ومواقعها الجيوسياسية في تنفيذ مسارات وخطوط الطاقة، أبرزها الانسحاب العسكري الأمريكي من إقليم الشرق الأوسط، ثم من إقليم وسط آسيا تحديدًا من أفغانستان، وذلك بحثًا عن تعظيم مصالحها في شرق آسيا وتطويق الصين المنافس القوي للولايات المتحدة على القيادة الدولية، وهو ما أحدث بدوره فراغًا إستراتيجيًّا يسهم في دفع القوى الإقليمية للبحث عن حلفاء دوليين أقوياء من ناحية، وإعادة وضع منظومات أمنية ذاتية لحماية الأمن والاستقرار من ناحية ثانية. وفي ما يلي أبرز العوامل الحاسمة التي دفعت الطرفين إلى سرعة توقيع الاتفاق في بكين، رغم إجرائهما مفاوضات غير مباشرة استمرت قرابة عامين، وكان يجري الإعداد لتنظيم جولة سادسة ببغداد.
1 - دوافع المملكة لتوقيع الاتفاق
قبيل الحديث عن العوامل الحاسمة، لا بد من الإشارة إلى العوامل العامة لتوقيع الاتفاق، وهي تتمحور ببساطة حول التحول في توجهات القيادة السعودية، خلال الآونة الأخيرة، إلى مرحلة أكثر ديناميكية وانفتاحًا تجاه مجريات الشؤون الإقليمية والعالمية بحكم المقدرات والإمكانات السعودية المتعددة ضمن رؤية سعودية طموحة (رؤية 2030م) لتحويل المملكة إلى فاعل إقليمي مؤثر في الشرق الأوسط، بل وينقلها إلى مصاف الدول المؤثرة عالميًّا ويعزز مصالحها إقليميًّا وعالميًّا، وذلك ليس فقط من خلال تصحيح أنماط العلاقات الخارجية ومفهوم الشراكة والمنفعة المتبادلة، وإنما أيضًا من خلال بث الرسائل بأن تحقق الاستقلالية.
وتعدد البدائل والشركاء الإستراتيجيين في العلاقات الدولية يُعدّ هدفًا سعوديًّا إستراتيجيًّا، وهذا لا يعني تخليًّا عن الحلفاء الدوليين التقليديين، ولكن كما تسعى الدول للبحث عن مصالحها الخاصة في علاقاتها الدولية فإن للمملكة الحق أيضًا في أن تبحث عن حلفاء دوليين جدد وعن تعظيم مصالحها.
وفي ما يلي الدوافع الحاسمة وراء توقيع المملكة للاتفاق في هذا التوقيت:
أ- شعور المملكة بجدية إيران:
ما لمسته المملكة في إيران بأنها قد تكون جادة خلال هذه المرة وأنها استفادت من تجربة الماضي المرير وسنوات القطيعة السبع وتداعياتها السلبية المتعارف عليها على الداخل الإيراني، لا سيما أن المحادثات غير المباشرة بين الجانبين في بغداد قد أسفرت عن توقف أو تراجع معدل الهجمات الحوثية على الرياض وتأييد الجانبين السعودي والإيراني لوقف إطلاق النار في اليمن.
ب- توجه السعودية نحو سياسة تصغير «المشاكل»:
تتوجه المملكة العربية السعودية تدريجيًّا نحو سياسة «تصغير المشاكل» لإنهاء التوترات الإقليمية القائمة وتعزيز المصالح والمكاسب السعودية الإستراتيجية كما فعلت مع قطر وتركيا، لا سيما مع ظهور توجه عام لدى العديد من الدول في الشرق الأوسط إلى تبني وتعزيز سياسة صفر مشاكل لتحقيق مصالحها الإستراتيجية الخاصة كمصر وتركيا والإمارات.
ج- إدراك المملكة بتعاظم فرصها في نظام متعدد الأقطاب
الصين أحد أقطابه المؤثرة للغاية، وبدأ في الظهور خلال الفترة الماضية بعد مرحلة مخاض عسير، وهو نظام يتجه نحو التعددية لم تقوَ خلاله قوة دولية بمفردها على التحكم في التأثير في مجريات الشؤون والقضايا الدولية. ويبرز هذا النظام أهمية الدول التي تمتلك سلعًا إستراتيجية مهمة للتجارة الدولية والمملكة واحدة من هذه الدول، وتريد أن ترسم لنفسها مكانًا فيه بما يحفظ أمنها ويعزز مكانتها ويضمن مصالحها الإستراتيجية.
د- ثقة المملكة في الصين كضامن دولي
إذ وافقت المملكة على توقيع الاتفاق بشكل رئيسي لأن الصين قطب دولي كبير، وتمتلك من أوراق الضغط ضد إيران ما يجعلها قادرة على التأثير في إيران للالتزام بالاتفاق، فالصين موثوقة لإيران، وأحد أعضاء مجلس الأمن الدائمين العضوية، ومستورد رئيسي للنفط الإيراني حتى خلال أوقات العقوبات وأهم شريك تجاري لإيران، كما أن للصين التأثير الأكبر في القرارات الاقتصادية والعضوية في عديد من المنظمات الاقتصادية الدولية الصاعدة مثل البريكس والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، كما أن الصين مزود سلاح رئيسي لإيران وأوشكت الصين أن تتبوأ المرتبة الأولى اقتصاديًّا حسب أحد المؤشرات الاقتصادية العالمية، وقلصت الفارق العسكري الكبير بينها والولايات المتحدة من حيث النوع والإنفاق العسكري ولا يمكننا تجاهل أن دولة بحجم الصين من الصعب قبولها الدخول باعتبارها ضامنًا لاتفاق كبير في منطقة جيوإستراتيجية حساسة بين طرفين كبيرين بوزن المملكة وإيران في أول ضمانة لها وأول اختبار حقيقي لقوتها وأدوات تأثيرها في المنطقة، تقبل بإخفاقه بسهولة.
للصين مصلحة في توقيع الطرفين للاتفاق لاعتبارات اقتصادية (الدولتان مصدران أساسيان للنفط الذي يشكل العصب الرئيسي لدوران عجلة الإنتاج الصيني الضخمة، كما أن الصين بحاجة إلى الدولتين السعودية والإيرانية ضمن مساعيها لتنفيذ المشروع الصيني الاقتصادي العابر للحدود الحزام والطريق»، فالدولتان مفصليتان على الطريق)، واعتبارات سياسية (الدولتان مهمتان سياسيًّا للصين ضمن مفهوم الشراكة الإستراتيجية الشاملة لتعاظم المصالح والمنافع المتبادلة وتعديد البدائل الدولية للنظام الدولي)، واعتبارات أمنية إنهاء الصراع بين الطرفين يضمن سلامة التجارة الصينية المارة عبر مضيقي هرمز وباب المندب الإستراتيجيين).
2 - دوافع إيران لتوقيع الاتفاق
في الوقت الذي كانت فيه إيران مستمرة في تدخلها في الشؤون الداخلية للدول العربية والخليجية، واستمرار ميليشياتها المسلحة في اعتداءاتها المتكررة على الأراضي السعودية، طالبت طهران من الرياض مرارًا وتكرارًا الجلوس إلى مائدة المفاوضات لتسوية الخلافات القائمة، وفي المقابل كانت المملكة ترفض التفاوض حتى يتم وقف الاعتداءات المليشياوية الحوثية وغير الحوثية على الأراضي الخليجية والسعودية، والتغير في الأفعال (السلوك) لا في الأقوال.
وهناك عاملان رئيسيان وراء المحاولات الإيرانية المتتالية لتسوية الصراع مع السعودية:
أ- الظروف الاقتصادية الضاغطة:
يأتي الاتفاق في توقيت حساس للغاية بالنسبة إلى إيران من الناحية الاقتصادية على المستوى الشعبي والحكومي على حد سواء، نظرًا إلى اجتماع عدة مؤثرات خارجية وداخلية فاقمت الوضع الاقتصادي الإيراني، بداية من إعادة فرض العقوبات الأمريكية منذ عام 2018م، وتداعيات كورونا في 2020م، والحرب الروسية الأوكرانية في 2021م، والاحتجاجات الداخلية على مقتل مهسا أميني في 2022م.
فمن ناحية يعاني الاقتصاد من تباطؤ النمو الاقتصادي وتسرب الاستثمارات إلى الخارج، وتواجه مالية الحكومة عجزًا ماليًّا كبيرًا ومتزايدًا مع محدودية الإيرادات النفطية ولا تستطيع الوصول إلى كل احتياطاتها المجمدة بالخارج لفك ضائقتها المالية، إضافة إلى تراجع صادراتها، وتحوّل ميزان التجارة من فائض إلى عجز بمليارات الدولارات، ما عزز انهيار قيمة العملة المحلية أمام العملات الأجنبية. ومن ناحية أخرى يكتوي الشعب الإيراني بنار التضخم منذ أكثر من عامين، ولم يستطع أيٌّ من الرئيس السابق حسن روحاني، أو الحالي إبراهيم رئيسي، مواجهته، حتى أصبح واحدًا من أكبر هواجس الإيرانيين وتسبب في إيقاع ملايين الأفراد تحت خط الفقر. أضحت هذه المتغيرات تشكل تهديدًا، ليس فقط لاستقرار المجتمع، بل والنظام الحاكم بأسره، وتدفعه إلى محاولة إحداث تغييرات سياسية ضرورية قبل خروج الوضع الداخلي عن سيطرته.
ب- تداعيات حالة العزلة:
تسبب قطع السعودية علاقاتها الدبلوماسية مع إيران قبل نحو 7 سنوات على خلفية الاعتداءات على المقار الدبلوماسية السعودية في طهران ومشهد، في تعزيز حالة العزلة الإقليمية لإيران، وهو ما زاد إيران ضغطًا، بل ونبذًا في المنطقة العربية، إذ بلغ إجمالي عدد الدول العربية التي قطعت أو خفضت علاقاتها الدبلوماسية مع إيران بفعل سياساتها التدخلية المتكررة نحو 12 دولة عربية 9 دول قطعت السعودية والبحرين والمغرب ومصر واليمن والسودان، والصومال، وجيبوتي، وجزر القمر. و3 دول خفضت الكويت، والإمارات قبل أن تعيدا سفيريهما لطهران خلال 2022م ، والأردن)، وموريتانيا (استدعت السفير)، ما نسبته أكثر من 60 % من الدول العربية، وبالتالي فالأزمة مع إيران لا تخص دولة عربية بذاتها وإنما تخص أكثر من 60 % من الدول العربية، مع وضع إيران في حالة عزلة غير مسبوقة وحسابات دولية معقدة ألقت بظلالها السلبية على إيران وعلاقاتها الإقليمية وزادت عزلتها الدولية، أيضًا، ولذلك شكلت حالة العزلة دافعًا مهمًّا وراء المحاولات الإيرانية المتكررة لتسوية العلاقات مع الرياض.
ثالثًا: ردود الفعل الداخلية والإقليمية والدولية
منذ أن أعلنت إيران والسعودية التوصل لاتفاق حول استئناف علاقاتهما الدبلوماسية المقطوعة منذ 2016م، بعد مفاوضات قادتها الصين توالت ردود الفعل المحلية والإقليمية والدولية حول أثر هذا الاتفاق والبعد الذي يحمله فيما يتعلق بمستقبل الاستقرار في دول المنطقة.
1 - المواقف الداخلية للطرفين
أ- الموقف الرسمي السعودي
تجلّى في تصريحات وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، والذي قال: إن الاتفاق السعودي الإيراني على عودة العلاقات الدبلوماسية، يؤكد الرغبة المشتركة لدى الجانبين لحل الخلافات عبر التواصل والحوار، مشددًا على أن هذا الاتفاق لا يعني التوصل إلى حل لكافة الخلافات العالقة بين البلدين. وحول مصلحة السعودية بعد الإعلان عن الاتفاق مع إيران قال وزير الخارجية السعودي: «الأصل في العلاقات الدولية هو وجود علاقات دبلوماسية بين الدول، ويتعزز ذلك في حال دولتين جارتين بحجم المملكة وإيران تجمعهما روابط عدّة دينية وثقافية وتاريخية وحضارية مشتركة». وقال معالي وزير الدولة مستشار الأمن الوطني في السعودية الدكتور مساعد بن محمد العيبان: إن الترحيب السعودي بمبادرة الرئيس الصيني لتطوير علاقات حسن الجوار «يأتي انطلاقًا من نهج المملكة الثابت والمستمر منذ تأسيسها في التمسك بمبادئ حسن الجوار، والأخذ بكل ما من شأنه تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، وانتهاج مبدأ الحوار والدبلوماسية لحل الخلافات».
ب- الموقف الرسمي الإيراني
جاء كذلك مرحبًا بالاتفاق، حيث رحب به المسؤولون الإيرانيون في مختلف مستوياتهم، وأكد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، أن استئناف العلاقات بين إيران والمملكة العربية السعودية يوفر إمكانيات كبيرة للبلدين والمنطقة والعالم الإسلامي، معتبرًا أن سياسة الجوار المحور الرئيسي للسياسة الخارجية لحكومة إبراهيم رئيسي، وأنها تمضي بقوة في المسار الصحيح، ويعمل الجهاز الدبلوماسي بنشاط نحو إعداد المزيد من الخطوات الإقليمية».
الصحافة الرسمية الإيرانية وصفت هي الأخرى بكافة أطيافها وتوجهاتها الاتفاق بأنه مهم وباعث على الأمل، ودعت بعض الصحف إلى توسيع نطاق الاتفاق لتشمل المصالحة مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية عمومًا لإنهاء عزلة إيران الدولية والتخفيف عن الوضع الاقتصادي والمعيشي السيىء الذي بات الإيرانيون يعانون منه بشكل كبير. أما الصحف الإصلاحية، رغم ترحيبها بالاتفاق إلا أنها انتقدت المحافظين لتأخرهم في تحسين العلاقات مع السعودية ورأت أن اقتحام السفارة السعودية في طهران عام 2016م، كان بهدف إفشال الجهود الدبلوماسية لحكومة حسن روحاني، كما وصفت هذه الصحف جهود المحافظين لتحسين العلاقات مع الرياض بالطرفة التاريخية، لأنهم يبذلون قصارى جهدهم لعودة العلاقات بعد أن كانوا هم السبب في ارتكاب الخطأ الكبير الذي تسبب في قطع العلاقات وهو اقتحام السفارة.
2 - مواقف الأذرع الإيرانية
على مدى السنوات الماضية، لعبت الأذرع الإيرانية في المنطقة، دورًا رئيسيًّا في تنفيذ المشروع الإيراني بدول المنطقة، لذا فإن الحد من نفوذ هذه الأذرع قد يشكل أحد أهم عوامل نجاح الاتفاق في المستقبل وكذلك قد يدفع نحو حلول سياسية، تجعل الدول الإقليمية أكثر استقرارًا، خاصةً إذا تعاونت إيران مع السعودية في تهيئة السبل الكفيلة ببسط الأمن والاستقرار في دول المنطقة؛ وبالتالي فإن إقدام إيران على توقيع الاتفاق يشكل اختبارًا حقيقيًّا لمدى سيطرة إيران على أذرعها في ساحات النفوذ لا سيما في الساحة العراقية التي شهدت أذرعها العسكرية انقسامات من بين أسبابها طبيعة العلاقة مع إيران، حيث حققت بعض هذه الأذرع مصالح خاصة بعيدًا عن المصالح الإيرانية.
بعد الإعلان عن التوصل لاتفاق ينهي القطيعة الدبلوماسية بين السعودية وإيران، عبّر الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، عن سعادته لعودة العلاقات بين البلدين الرياض وطهران وقال إن لديه الثقة أن ذلك سيكون في مصلحة شعوب المنطقة، معتبراً أن الاتفاق من الممكن أن يفتح الآفاق في كل دول المنطقة من ضمنها لبنان. وفي اليمن قال الناطق باسم الحوثيين: إن المنطقة بحاجة إلى عودة العلاقات الطبيعية بين دولها.