فضل بن سعد البوعينين
ما زالت أصداء الاتفاق السعودي الإيراني تتردد، وتأخذ عمقاً أكبر، ومساحة أوسع من الاهتمام. ردود أفعال إيجابية من المجتمع الدولي، تدعم الاتفاق وتأمل أن يكون سبباً لعودة الاستقرار في المنطقة، ونزع فتيل الأزمات الأمنية والسياسية فيها، وهو ما تحرص المملكة على تحقيقه، وتكريسه لمصلحة دول المنطقة وشعوبها والمجتمع الدولي. فمن شأن رجوع إيران عن سياساتها العدائية، والتزامها بالاتفاق المشترك، أن يعيد الأمن والاستقرار للمنطقة، وأن يسهم في تنميتها وأن ينهي عقوداً من نزاعات إيران المفتعلة التي تسببت في تأخرها عن ركب التنمية، وانهيار اقتصادها، وعزلها عن المجتمع الدولي.
جاهدت إيران، خلال السنوات الماضية، لعقد مفاوضات مباشرة مع السعودية، بغية التوصل إلى اتفاق تعود بموجبه العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، غير أن التجارب السابقة معها لم تشجع المملكة على قبول دعواتها المتكررة، حتى جاءت مبادرة الرئيس الصيني التي هيأت الظروف المناسبة لعقد اللقاء، ودعم التوصل إلى اتفاق بين البلدين، وضمان مخرجاته.
دخول الصين كوسيط محايد ومشارك في اللقاء، وضامن للاتفاق، شجع السعودية على بدء المحادثات الثنائية في بكين، وبشروطها السابقة التي كشف عنها البيان، ومنها ضرورة احترام حسن الجوار والالتزام بمبادئ ومقاصد ميثاقي الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي والمواثيق والأعراف الدولية، واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها.
فالصين شريك ثنائي للمملكة وإيران ومن مصلحتها التوصل إلى اتفاق عادل وموثوق بين البلدين، يعيد الأمن والاستقرار للمنطقة، التي تحتضن جُل استثماراتها، وشراكاتها الاقتصادية، وتعتمد عليها في توفير ما يقرب من 50 في المائة من وارداتها النفطية. من مصلحة الصين ضمان أمن واستقرار المنطقة الغنية بالنفط، وهذا لن يتحقق إلا بتحييد إيران، ودمجها في المجتمع الدولي، ووقف عدائيتها وتدخلها في شؤون الدول، وهو ما يفترض أن تسهم في تحقيقه عودة العلاقات السعودية - الإيرانية. كما أن من مصلحة إيران الرجوع عن سياستها العدائية، والالتزام بما أتفق عليه في المفاوضات المشتركة، لضمان استدامة شراكتها مع الصين، ومعالجة أزمتها الاقتصادية، وأزماتها الداخلية والخارجية، وإحياء الاتفاقية الصينية الإيرانية، التي تشكل قارب النجاة الأخير للاقتصاد الإيراني. استقرار إيران وتنميتها يصب في مصلحة استقرار المنطقة وتنميتها وهو أمر محفز للوصول إلى اتفاق مشترك يعالج جميع القضايا العالقة، وليس عودة العلاقات الدبلوماسية فحسب.
أجزم أن إعادة المملكة تقييمها لملف الأزمة الإيرانية العام 2016م والتعامل معها وفق رؤية مختلفة محققة لأهدافها الإستراتيجية، وانتهاج سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أسلوباً مختلفاً لإدارتها، مع المضي قدماً في تنفيذ رؤية 2030 وبرامجها التنموية والاقتصادية، وإشراك دول الجوار في رؤيته التنموية، وتحقيق الشراكة العربية الإسلامية، وتحويل الرياض إلى عاصمة المؤتمرات الدولية الهادفة لتحقيق أمن واستقرار المنطقة وتنمية دولها هو ما أسهم في تحول المواقف الإيرانية، وبحث النظام عن آلية مفاوضات من خلال وسيط مشترك، وموثوق لإنهاء الأزمة.
ففي الوقت الذي تحقق فيه المملكة نمواً اقتصادياً استثنائياً هو الأعلى بين دول مجموعة العشرين، وتتوسع في تنفيذ مشروعاتها التنموية وإطلاق برامجها وشراكاتها الاقتصادية، وتصبح مركز جذب للاستثمارات الأجنبية، عانت إيران من عزلة دولية، وأزمات اقتصادية حادة، وانهيار لعملتها المحلية، وارتفاع نسبة الفقر، والبطالة، والتضخم ما تسبب في اندلاع ثورة شعبية عارمة، ما زالت مشتعلة حتى اليوم.
انهيار الاقتصاد، التضخم، انهيار العملة المحلية، تفشي الفقر، البطالة، ونضوب السلع؛ وحالة التخلف التي تشهدها إيران مقارنة بدول الخليج المجاورة التي تتمتع بأعلى معدلات التنمية والرخاء والأمن والاستقرار، واستمرار الثورة الشعبية، أحدث تحولاً سريعاً في الموقف الإيراني، وبتوجيه مباشر من المرشد، وربما إقراراً بالأضرار التي لحقت بالنظام ليس في إيران فحسب، بل وفي دول عربية خاضعة للنفوذ الإيراني.
قد تكون الثورة الشعبية، والتداعيات الاقتصادية من مسببات بحث إيران عن اتفاق يساعدها على معالجة أزماتها الداخلية والخارجية، إلا أن من المهم الإشارة إلى الضغط الإعلامي الموجه ضدها من قبل قنوات سعودية في الخارج، والذي أحدث تأثيراً كبيراً في الداخل الإيراني، ما جعل أمر إيقافها أولوية لمفاوضيهم. منظومة الإعلام الموجه كان ضمن إستراتيجية المواجهة التي أثبتت جدواها خلال فترة زمنية قصيرة، ما يؤكد أهمية الإعلام، وقدرته على تحقيق الأهداف الإستراتيجية الوطنية، متى ُحسنت إدارته.
نزع فتيل الأزمات نهج سعودي أصيل، ومن أركان السياسة السعودية القائمة على التمسك بمبادئ حسن الجوار والأخذ بكل ما من شأنه تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، وانتهاج مبدأ الحوار والدبلوماسية لحل الخلافات، وما الاتفاق الموقع مع إيران إلا تكريس لذلك النهج الثابت الذي أكسبها ثقة الجميع.