نوف بنت عبدالله الحسين
أن تجد الحمَام يمشي بأمان بين الناس، وأسراب منه تحلّق حولك وتهبط عليك، وأنت تتأمل في دعوة أبينا إبراهيم {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}، فتعلم حينها لماذا نشتاق للحرم المكي، ولماذا في كل مرّة نذهب للعمرة فنشعر وكأنها المرّة الأولى! وفي كل مرّة نرى فيها الكعبة نستشعر هيبتها وكأنها أولى مرة نراها...وهنا أتفكر في هذا الحمَام المحمي حول الحرم، يمشي بزهو وراحة بين الآخرين، آمنًا مطمئنًّا، لا يشغل باله الغد، ولا يقف عند الأمس، يعيش هذه اللحظة واثقًا بأنها اللحظة الأسمى، حمام الحمى يطوف مع الطائفين، ويجد رزقه في ساحات الحرم، ودون أن يعلم فهو يسعد المارّين بوجوده وتجمعه، وفي الحديث الشريف: (هَذَا الْبَلَدُ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ ، إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ) فما أعظم دينًا حفظ على كل المخلوقات أمانها في أرض مقدسة مباركة.
فالدرس الأول الذي تعلّمته هو أن أتخلّص من قلق الغد مهما كان، فالله سبحانه بيده المستقبل، هو حسبي ونعم الوكيل.
الدرس الثاني، أن أعيش اللحظة بتفاصيلها دون أن يشغلني عنها شيء أو يفسد علي أمر قديم أو حديث، فاللحظة إن غادرتنا لن تعود.
الدرس الثالث، الرضى، أن أرضى بما قسمه الله لي وأمتن وأحمده تعالى على ما أكرمني به ويسره لي.
الدرس الرابع، الامتنان لكل شيء، لليسر والعسر، وللأيام السهلة والصعبة، وللمواقف القاسية والليّنة، ولكل شيء كان ظاهره متعبًا وفي طيّاته خير كثير.
الدرس الخامس، الابتعاد عن كل ضغينة أو شعور بالأسى، والتخلّص من تبعات اللحظات المزعجة العالقة.
الدرس السادس، الثقة بالله سبحانه أنه القادر وحده أن يجبرك وينصفك ويرضيك ويشملك في رحمته.
الدرس السابع، التأمّل، إن التأمل في كل شيء حولك والتفكّر بشأنه يمرّن عقلك على التقبّل والتفهّم، ويجعلك تبحث وتتدارس، فينشط عقلك وتتهذب روحك، وتتزود من العلم والمعرفة.
الدرس الثامن، التواضع، فما التواضع إلا رفعة، وما الكبر إلا نقص، ومهما أوتيت من العلم فما أوتيت إلا قليلًا ومهما أوتيت من المال فما أوتيت إلا قليلًا، فمهما تعلمت زدت معرفة بحجم جهلك قبل العلم، ومهما زاد مالك زادت مسؤوليات جسام وحقوق غليظة.
الدرس التاسع، الهدوء، نحتاج إلى الابتعاد عن ضوضاء الحياة لرحابة السماء وسعة الأرض، وإلى الابتعاد عن خنقة الهموم إلى يقين الفرج، ففي الحديث الشريف (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) ما يزيدنا إلا إيمانًا بأن أقدارنا بيد الحافظ سبحانه.
الدرس العاشر، المعاهدة، وهذه المعاهدة هي أن تعاهد نفسك على أن تستمر في التغيير نحو الأفضل، وأن تكون دائم التغيير في ذاتك وأفكارك بما يلائم ويواكب قيمك ومبادئ دينك ومعتقدك، وبما يلامس ضميرك ويعمل على إصلاح نفسك حتى وإن قصّرت أو أسأت أو تجاوزت، فما زال هناك فرصة للإصلاح من نفسك والتأني مع ذاتك {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ}.
الدرس الحادي عشر، لا تتحمل أخطاء الآخرين، وتعامل معها على أنها أخطاء تحتاج منك المساعدة لحلّها، لا أن تعتبرها أخطاءك، {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
الدرس الثاني عشر، التجرّد من زيف الحياة، فهي دار ممر، وأن تتجرّد من صلاحيّتك الوهمية في انتقاد الآخرين والتركيز في عيوبهم دون أن تركّز في نفسك التي تحتاج إلى إصلاح دائم.
الدرس الثالث عشر،التعلّم، فأمام هذا الحمَام أقف عاجزة حائرة حول نوعه وفصيلته وتآلفه وأسرابه مما أثار انتباهي وفتح لي مجالًا للبحث والقراءة أكثر في شأنه، فالعلم يقرّبك إلى الله ويزيدك بصيرة ومعرفة، فلا تبخل على نفسك بمعرفة تنفعك، ولا تبخل على الآخرين بنشرها، وقدمها وأنت موقن بأن الله سيجازيك بها خيرًا كثيرًا، ويبعد عنك الشرور.
الدرس الرابع عشر، التوازن، توازن في كل شيء، (فثُلثٌ لطعامِه وثلثٌ لشرابِه وثلثٌ لنفسِه)، وتوازن ما بين أمور الدين والدنيا ففي الحديث الشريف (لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني) دلالة على منهج التوازن في كل شيء، وفي الحديث الشريف (حُبِّبَ إليَّ من دُنْياكمُ النِّساءُ والطِّيبُ وجُعِلَت قُرَّةُ عَيني في الصَّلاةِ) تأكيد على حاجة الإنسان لمنهج الاتزان والاعتدال.
هذه بعض الدروس التي تجلت في الحرم المكي، وما أحوجنا للتفكر فيما حولنا لنهتدي سبل السلام.