الكتابة عن الأم صعب مستصعب، سهل ممتنع، إن الكتابة عنها تتطلب عمراً آخر! الكتابة عنها مركبة ومعقدة، سلسة وشاقة ومشوقة، ومهما كتب الكتَّاب وقال الوعاظ وأنشد الشعراء فلن يوفوها حقها؛ لأنها أصل الإنسان ووجوده. الكتابة عنها دونه خرط القتاد، والمشي على حسك السعدان أسهل من كتابة جملة عنها، فليس سهلاً أن نلد أمهاتنا على الورق!
للأم في كل الشرائع السماوية والأرضية منزلة رفيعة، لكن الإسلام تميز عليهم جميعاً، وإن الحديث عنها ذو شجون لا يمل، فلها القدح المعلى في حياة الإنسان، هي قامة وقيمة مضافة له حيث تحمل وليدها وهناً على وهن فيمتص من دمها وقد تتساقط بعض أسنانها، وقد تصاب بأمراض مزمنة لكنها تحمله صابرة فرحة، فما أن تضعه حتى تضمه إلى صدرها الحنون متناسية أو متجاهلة آلامها ونزيفها وجراحها، وهو يبكي، والناس حوله يضحكون سروراً!
هي ملحمة صبر وكفاح وقوة، هي تتفوق على الرجل في تحملها الآلام والأوجاع والأمراض.
إنها التي ترى أولادها جل أحلامها، وتتأمل فيهم مستقبلها، وترى طفولتهم ماضيها، وحياتهم امتداداً لها، وحين يشار إليهم بالبنان بإنجازاتهم الرائعة ترفع رأسها قائلة: هؤلاء أبنائي قرة عيني.
هي بطلة مسرحية الحياة التي تمثلها على الأرض مسرحها الكبير بجدارة. قال أحد المؤرخين: «حين يكون الوقت وقت أزمة وحرب ومجاعة يكون الزمان زمان المرأة، فهي تتقدم الصفوف؛ لتنقذ البشرية، وحين الوفرة والرخاء والدعة يكون الوقت وقت الرجل». ونحن نرى الحروب ينشغل فيها الرجال بالقتال وتتولى المرأة أمر الأطفال والتمريض وغيرها.
أتعجب من صبرها وتحملها كم هي معجونة من مر الصبر، وحلاوة التمر فهي تضحي بشهواتها وغرائزها وبمالها بل بحياتها لأجل فلذات أكبادها زينة الحياة الدنيا، وهي لا تعلم هل سيكونون سندها في عجزها أم سيولون الدبر؟!
هي الأم التي تسهر الليالي الحالكة في تمريض أبنائها وفي الصباح تأخذهم بأيديهم إلى المدرسة ماشية معهم حين لا توجد وسيلة مواصلات تاركة لذيذ نومها، وفي الظهر تنتظرهم عند باب المدرسة بفارغ الصبر لترجعهم إلى حضنها. وفي المساء تكون لهم معلمة خصوصية؛ ليتفوقوا عليها ويبنوا مستقبلهم.
هي الأم التي تعيش لأبنائها فتراهم مرآتها أو صورتها وتعيش معهم ولهم وأجلهم؛ لتعيش فيهم حباً وحياةً، فإذا ترملت أو تطلقت قد لا تتزوج خوفاً عليهم فتكون لهم الأم والأب والمربي والمعيل والحامي والسند.
الأم يراها الطفل كل شيء وفي مراهقته يحاول الاستقلال عنها ويعاندها، وفي الأربعين تداهمه لحظات الصحو بين وقت وآخر: أريد أمي، أريد أن أعود إلى حضنها، وأتذكر أكلاتها وكلماتها. ويكتشف فجأة أنه أصبح نسخةً منها، وما كان يرفضه من توجيهاتها يكرره مع أبنائه ولا يدرك مدى تعبها ألا إذا أنجب أطفالاً!
ست الحبايب كنا ونحن أطفالاً نخفي اسمها عن أصدقائنا، ونزعل إذا عيرنا بعضهم بأمهاتنا وكأن اسمها عورة! هي ملحمة صبر وكفاح وقوة، هي أقوى من الرجل في تحملها الآلام ومنها آلام الحمل والولادة والنفاس وتربية الأولاد. أتساءل عن صبرها، أين تذهب آلامها وأوجاعها؟ هل تدربت على إخفائها ثم دفنها؟ قد يأتيها المخاض عند جذع نخلة ولا أحد معها فتضع مولودها ثم تحمله وهي تنزف ذاهبة إلى قومها تبشرهم بغلام صبيا. فهل بعد هذا من صبر وقوة؟!
ست الحبايب عطاء لا حدود له لأبنائها فكأنها تقول لهم إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا. تقدم حبا غير مشروط فلو فقدت ابنها مدة طويلة ودخل عليها فجأة، وفي يدها سكين تقطع بها فاكهة فقد تقطع أناملها أو تجرحها من هول الصدمة!
الأم ظاهرها الرحمة وباطنها الرأفة، وهي نعمة من نعمه التي لا تحصى علينا.
هي حارسة الفضيلة لأبنائها وقيمة مضافة لهم إذا أحسنت تربيتهم؛ لأن الأمومة قيمة إنسانية ومرتبة رفيعة لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم. هي الجميلة في حضورها وغيابها مهما تضجروا من أوامرها ونواهيها. هي صانعة تاريخ الإنسان، هي جامعته ومدرسته الأولى لقول شاعر النيل حافظ إبراهيم:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم أستاذ الأساتذة الأولى
شغلت مآثرهم مدى الآفاق
لا يكفي في المناسبات أن نهديها أجمل الملابس، أو أزكى العطور، أو أغلى قطع الذهب والألماس والمجوهرات، وأعظم هدية تتمناها الأم طاعتها الشرعية، واحترامها، وتقدير جهودها، وزيارتها باستمرار، والوفاء لها في شيخوختها ومرضها. فكم رأينا أمهاتٍ يتحسرن على أولادهن وهم يهدونهن أموال الدنيا، ثم يهجروهن. وأكثر ما يؤلم الأم حين يأتي العيد فلا ترى من وهبته عمرها. والمؤلم أكثر حين يزورها أبناؤها زيارة مجاملة وهم متشاغلون عنها بأجهزتهم الذكية.
نحن المسلمين كل أيام السنة هي أعيادنا، فالإسلام حث على برها وطاعتها في غير معصية الله.
أقف إجلالاً للأم المضحية التي لم يغرها زخرف الحياة وزينتها، فتهتم بصنع أجيال المستقبل، ولا تركض خلف آخر صرعات الموضة؛ لتكون رقماً صعباً في حياتهم فإذا كان ما على الأرض ما يستحق الحياة فعليها ما يستحق الحب والوفاء والتكريم.
إننا ننفق أعمارنا وأموالنا وجهودنا من أجل البحث عن السعادة ولا ندرك أنها عند وبين من حملتنا بين أيديها.
هي هبة الله لنا لا تقدر بثمن، ووصيته التي سيسألنا عنها، قال تعالى:
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا الأحقاف 15.
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا العنكبوت 8.
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ لقمان 14.
بروا أمهاتكم بكل ما تستطيعون من قوة، وكحلوا نواظركم برؤيتهن، وحدقوا النظر في أعينهن، فستكتشفون جمالاً مخبأ قد لا تجدونه في زوجاتكم، إنه جمال روحي ومعنوي. وانصتوا لكلماتهن ولو مكررة مملة، واقتربوا منهن بأجسامكم ولامسوهن بأيديكم وأجسامكم، وقبلوا رؤوسهن بقبلات الحب والاحترام والتقدير، واشبعوا منهن، فسيأتي يوم تنظرون إليهن فلا يرددن عليكم، فلا تهيلوا عليهن التراب فتقسو قلوبكم، واذكروهن حتى الممات، ألا بذكرهن تطيب القلوب.