عبد الله سليمان الطليان
نستكمل هنا الجزء الأخير من كتاب الطبيب البريطاني بن جولديكر (شرور شركات الأدوية) يتحدث فيه عن التسويق حيث يقول: دعونا نفكر في قرار الطبيب المتعلق بوصف دواءٍ معين من وجهة نظر شركة الأدوية. أنت تريد أن يصف الطبيب منتَجك، وسوف تفعل أي شيءٍ باستطاعتك لكي يحدث ذلك. قد تسمي ذلك (رفع درجة الوعي بمنتَجك) أو (مساعدة الأطباء في اتخاذ القرارات) ولكن الحقيقة هي أنك تريد رفع نسبة مبيعاتك؛ لذا سوف تُعلن عن علاجك الجديد في الدوريات الطبية، ذاكرًا كل فوائده ولكن في الوقت نفسه سوف تُهوِّن من مخاطره وتبعد تمامًا عن مقارنته بالأدوية المنافِسة له. وسوف ترسل مندوبي الشركة لمقابلة الأطباء على نحوٍ شخصي، للتحدث عن مزايا هذا العلاج. وسوف يُقدِّمون لهم الهدايا ويدعونهم إلى حفلات غداءٍ، ويحاولون إقامة علاقاتٍ شخصية معهم، وقد تكون مفيدةً للطرفين فيما بعد.
يحتاج الأطباء للتعليم المستمر؛ فهم يمارسون الطب لعقودٍ بعد تركهم كلية الطب، وإذا ما نظرنا للأعوام السابقة، فسنجد أن الطب قد تغير تغيرًا جذريًّا، لنقل، منذ سبعينيات القرن الماضي؛ أي في الوقت الذي أنهى فيه الكثير من الأطباء الممارسين حاليًّا تعليمهم. وهذا التعليم باهظ التكاليف، والدولة غير مستعدة ولا راغبة في دفع تكاليفه؛ لذلك، فإن شركات الأدوية هي التي تدفع مقابل المناقشات العلمية والدورات التعليمية والمواد التدريسية وجلسات المؤتمرات، والمؤتمرات بأكملها، والتي تدعو فيها الخبراء الذين تعرف أنهم يفضلون منتجاتها الدوائية.
ويستند كل ذلك إلى قاعدةٍ من الأدلة الأكاديمية المنشورة التي غَذَّتها شركات الأدوية بعناية، من خلال النشر الانتقائي للنتائج المُرضية لها والاستخدام الحكيم لأخطاء التصميم، لكي تُعطيَ صورة متحيزة لمنتجاتها. ولكن هذه ليست هي الأدوات الوحيدة المتاحة لتلك الشركات للتأثير على ما يظهر في الدوريات الطبية؛ فهي تدفع لكُتابٍ محترفين لإنتاج أوراقٍ بحثية أكاديمية، تتماشى مع متطلباتهم التجارية، ثم تجعل الأكاديميين يضعون أسماءهم عليها. ويُعَد هذا بمنزلة إعلاناتٍ مخفية، تؤدي إلى نشر المزيد من الأبحاث الأكاديمية عن أدويتها، وبسرعةٍ أكبر. كما أن ذلك يُثري السير الذاتية للخبراء الداعمين لها، ويساعد الأطباء الأصدقاء للشركة في التمتع بالاستقلالية التي تتأتى من المنصب الجامعي.
يبدو كل هذا باهظ التكاليف، وهو بالفعل كذلك؛ فمن الصعب حساب ما يُنفق على التسويق، في مثل هذه الصناعة الواسعة، التي تكون فيها الأرقام في الغالب محلَّ جدلٍ كبير. قدَّر البعض أن صناعة الأدوية في المجمل تنفق على التسويق والترويج ضعف ما تنفقه تقريبًا على الأبحاث والتطوير. وبصرف النظر عن المقارنة بين الرقمين، فإن حقيقة أنهما متقاربان تجعلنا نتوقف قليلًا لنفكر، وهذا يستحق التأمل العميق في سياقاتٍ عديدة؛ فعلى سبيل المثال، عندما ترفض شركة أدوية السماح لبلد نامٍ بالحصول على دواءٍ جديد للإيدز بمقابلٍ معقول، وتُرجِع السبب في هذا إلى أنها تحتاج للمال الناتج من المبيعات لتمويل البحث والتطوير من أجل إنتاج أدوية إيدز أخرى جديدة للمستقبل. وبما أن البحث والتطوير يمثلان جزءًا صغيرًا من مصروفات الشركة، وبما أنها تنفق مبلغًا مشابهًا على الترويج، فإن تلك الحجة العملية والأخلاقية ليست مقنعةً إلى حدٍّ كبير الإعلانات الموجهة للمرضى:
تم حظر إعلانات الأدوية المباشرة للمستهلك في كل الدول الصناعية تقريبًا منذ أربعينيات القرن العشرين، لسببٍ بسيط للغاية، هو أنها تنجح في مهمتها؛ فهي تُشوِّه سلوك الأطباء فيما يتعلق بوصف الأدوية، وذلك عن عمد، وترفع التكاليف دون داعٍ. وقد غيرت الولايات المتحدة الأمريكية ونيوزيلندا) بالإضافة إلى باكستان وكوريا الجنوبية) رأيها في بداية الثمانينيات وسمحت بإعادة هذا الشكل من التسويق المباشر. ولكن هذا لا يعني أن هذه الإعلانات لم تَعُد مشكلتنا وأنها مشكلة بلدانٍ أخرى؛ فهناك معركة مستمرة لإعادة إتاحة ذلك في دول جديدة، كما أن هذه الإعلانات تتسرب عبر الحدود الوطنية في عصر الإنترنت، وهي تكشف أيضًا عن بعض الحقائق الواضحة فيما يتعلق بفكر صناعة الأدوية.
دعونا نُلقي نظرة على هذا العالم الغامض. عندما أصبحت الإعلانات الدوائية قانونيةً مرة أخرى في الولايات المتحدة، لم يكن مسموحًا بظهورها إلا في الشكل المطبوع؛ نظرًا لوجود شرطٍ يشترط تضمين كل معلومات الآثار الجانبية المكتوبة في نشرة الدواء. منذ عام 1997 خُففت هذه القيود، والآن أصبح من الممكن اختصار الآثار الجانبية) فهي تُقرأ بسرعةٍ شديدة في نهاية الإعلانات التليفزيونية)، وبعد هذا التغيير ارتفعت ميزانية إعلانات صناعة الأدوية السنوية من 200 مليون دولار إلى 3 مليارات دولار في بضع سنواتٍ فحسب.
أكثر من مجرد جزيئات:
أصبحت فكرةُ تَسبُّب انخفاض مستويات السيروتونين في المخ في الإصابة بالاكتئاب متأصِّلةً بعمقٍ في الفولكلور الجمعي، والأشخاص الذين لا يتمتعون بأي خلفيةٍ عن علم الأعصاب سوف يُضمِّنون عباراتٍ حول هذه الفكرة في مناقشاتهم اليومية بخصوص مزاجهم، فقط للإبقاء على مستويات السيروتونين لديهم مرتفعة. وبعض الناس أيضًا (يعرفون) أن هذه هي طريقة عمل العقاقير المضادة للاكتئاب. يرجع السبب في الاكتئاب إلى انخفاض مستويات السيروتونين؛ لذلك فأنت تحتاج لعقاقير ترفع مستويات السيروتونين في المخ، مثل مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية. ولكن هذه النظرية خاطئة. لقد كانت الخاصة بالاكتئاب كما يُطلق على - فرضيةً غير مؤكدة- على الدوام.
ولكن في الثقافة الشعبية تُعَد نظرية السيروتونين والاكتئاب نظريةً مثبتة ومطلقة؛ لأنه سُوِّق لها بفاعلية بالغة. ويمكنك ملاحظة تكرارها في المواد التعليمية والإعلانات الخاصة بالأدوية، ببساطةٍ ووضوح، لأنها منطقية جدًّا: الاكتئاب ينتج عن انخفاضٍ شديد في مستويات السيروتونين؛ لذلك، فأقراصنا التي ترفع مستويات السيروتونين سوف تعالجه. هذه الفكرة البسيطة جذابة، رغم عدم وجود ما يدعمها في الأبحاث الأكاديمية، لأنها تُحدِّثنا عن ضغوطٍ جزيئية خارجية يمكن التحكم فيها. وكما ذكرت صحيفة أمريكية مؤخرًا عن الاكتئاب (إنه ليس خللًا شخصيًّا، ولكنه شيء ينبغي أن ننظر إليه باعتباره اختلالًا في التوازن الكيميائي) تُعَد فرضية السيروتونين الخاصة بالاكتئاب، والترويج المتحمس لها من قِبل شركات العقاقير، جزءًا من عمليةٍ أوسع يُطلق عليها (المتاجرة بالمرض) حيث تُوسَّع الفئات التشخيصية وتُبتكر تشخيصات جديدة تمامًا، ويُضفى الطابع المرضي على التباينات الطبيعية في التجرِبة الإنسانية، بحيث يمكن علاجها بالأدوية.
المتاجرة بالمرض:
إن هذه العملية عملية اجتماعية تُوسِّع بمقتضاها شركاتُ الأدوية حدودَ التشخيص، لتُوسِّع سوقها وتُقنع العامة بأن أي مشكلةٍ اجتماعية أو مشكلة شخصية معقَّدة هي عبارة عن مرضٍ، من أجل بيع أدويتها، لحل هذه المشكلة. في بعض الأحيان، يمكن أن تكون المتاجرة بالمرض واضحةً وشنيعة؛ ولكنها في أحيانٍ أخرى قد تكون هشَّة لدرجة أنك لا تستطيع الإمساك بها ما من شكٍّ في أن التسويق يؤثر على تناول الأدوية، أو في أن الشركات تحاول ترويج آلياتٍ تفيدها وتُوسِّع أسواقها. وقد رأينا ذلك كثيرًا بالفعل، في قوائم الفحص الخاصة بالاكتئاب وقصة السيروتونين. بطبيعة الحال، يُعَد الطب النفسي مُعرَّضًا بنحوٍ خاص لآليات التسويق هذه.
في الغالب، الأمراض الحالية كانت موجودةً منذ الأزل، ولكنها كانت محلَّ تجاهلٍ أو غيرَ شائعةٍ إلى أن جاء دواء معين فأعادها إلى الحياة. على سبيل المثال، اضطراب القلق الاجتماعي، يصل عمره إلى مائة عامٍ على الأقل، ويمكنك أن تقول إن وصف أبقراط للخجل الزائد منذ عام 400 قبل الميلاد يصفه على نحوٍ رائع للغاية (يتجنب هذا الشخص الظهورَ أمام الناس، بدافعٍ من الخجل والشك والرعب... فهو لا يجرؤ على مصاحبة الآخرين خوفًا من الاستغلال السيئ أو من الخزي، أو من أن يجعل نفسه عرضةً للانتقادات تلميحًا أو تصريحًا، أو من أن يُصاب بالمرض؛ وهو يظن أن الجميع يراقبونه) بوجهٍ عام، كان الناس الذين يعانون من هذه المشكلة (نادرين) في الثمانينيات من القرن العشرين، كان انتشار هذه الحالة يتراوح بين 1 و 2 بالمائة؛ ولكن في غضون عَقدٍ واحد نُشرت تقديرات بأنها وصلت إلى 13 بالمائة.
مندوبو شركات الأدوية:
مندوبو شركات الأدوية هم الأشخاص الذين يزورون الأطباء في مكاتبهم، ويحاولون إقناعهم وجهًا لوجه بأن العقاقير التي تُنتجها شركاتهم هي الأفضل (وأود أن أشير إلى أن ما سأقوله هنا ينطبق أيضًا إلى حدٍّ كبير على مندوبي شركات الأجهزة الطبية (هؤلاء الأشخاص غالبًا ما يكونون جذَّابين وصغار السن، كما أنهم يحملون هدايا للأطباء ووعدًا بعلاقةٍ طويلة ومفيدة للطرفين مع شركاتهم. من الصعب أن نعرف كيف تتكوَّن هذه العلاقات؛ فمثل كل العلاقات، هي تُبنى تدريجيًّا، على الثقة المتبادلة؛ ومن ثَمَّ ينتج عنها سلوكيات شنيعة كالتي تحدث بين الأصدقاء. نقول إن هناك بالفعل مجموعةً هائلة من الأدلة المنشورة على أنشطتهم، والتي تكشف عن أمرٍ مهم، وهو أن الأغلبية العظمى من ميزانية الترويج الخاصة بشركات الأدوية تُنفَق على التأثير على الأطباء، وليس المرضى، وأن حوالي نصف هذا المبلغ يُنفَق على مندوبي مبيعات هذه الشركات. إن مرتبات هؤلاء المندوبين ليست قليلة، ورغم تذبذب أعدادهم، فقد تضاعفوا في العَقدين السابقين إذ هناك مندوب لكل ثلاثة إلى ستة أطباء، بِناءً على طريقة حسابك لهذا الأمر. وقد وجدتْ مراجعة منهجية أن أغلبية طلاب كلية الطب لديهم علاقات مع مندوبي شركات الأدوية حتى قبل أن يتخرجوا في كلياتهم. ولأن الصناعة تُنفِق أموالًا ضخمة على هؤلاء المندوبين، يمكنك أن تتأكد أنهم يؤثرون في عملية وصف الأدوية.
يؤكد الأطباء، مرارًا وتكرارًا، في الأبحاث النوعية والكمية على حدٍّ سواء - وفي أحاديثهم الاجتماعية أيضًا - أن مندوبي شركات الأدوية لا يؤثرون على وصفهم للأدوية (ويزعم الكثيرون أنهم يُحسنونه (ويقولون بسعادةٍ إن سلوكهم لن يتغير من خلال التفاعل مع مندوبي شركات الأدوية، ولكن سلوك غيرهم من الأطباء قد يتأثر. وكلما زاد مندوبو شركات الأدوية الذين تقابلهم، زاد احتمال أن تظن أنهم لا يؤثرون عليك إطلاقًا .
هذا كِبر وغرور ساذج؛ ففي أحدث المراجعات المنهجية، كانت هناك تسعٌ وعشرون دراسةً لبحث تأثير زيارات مندوبي شركات الأدوية. ووَجدتْ سبع عشرة دراسةً منها أن الأطباء الذين يقابلون مندوبي شركات الأدوية يزيد احتمال وصفهم للعقَّار المُروَّج (ست دراسات كانت نتائجها مختلطة، وباقي الدراسات أظهرت عدم اختلاف الوصف، ولم تدل أي دراسةٍ على انخفاض احتمال الوصف) أيضًا يميل الأطباء الذين يقابلون مندوبي شركات الأدوية إلى وصف الأدوية الأغلى ثمنًا، ويقل احتمال اتباعهم لإرشادات وصف الأدوية الخاصة بالممارسة الطبية المثلى.
أكتفي بهذا الجزء من كتاب الطبيب البريطاني, متمنياً من الله في أنني قد وفقت في الاختيار المعلومة المهمة من الكتاب.