عمّ أكتب إذا أردت الحديث عن الوجيه الكويتي والشاعر العربي عبدالعزيز بن سعود البابطين؟ ومن أيّ باب أنفذ إلى هذه الشخصية الفريدة التي تنتمي إلى واحدة من أعرق الأسر الخليجية، وأوسعها انتشارًا؟ ولا غرو فإن ذلكم البيت الماجد قد رفد مجتمعه عبر ثلاثة قرون بعدد من الأعلام في الفقه، والقضاء، والفتيا، والشعر، والاقتصاد، والتنمية الثقافية، والريادة الاجتماعية.
وبأيّ جانب أبدأ بالحديث عن السري البهي أبي سعود؛ الذي جمع عددًا غفيرًا من الرباعيات، وتحت كلّ رباعية قائمة متزاحمة من المفردات. فمن رباعيات الشيخ البابطين أنه رجل محب للربيع بما فيه من فرحة الغيث والخصب، وللقنص الكاشف عن مهارة تحين الفرص واقتناصها. وهو عاشق للصحراء التي يتأفف منها أقوام ما خبروا فتنتها، وإن حب الديار لمن الوفاء، ومديم للأسفار النافعة المؤثرة في أرجاء الأرض عربيها وإسلاميها إلى ما هو أبعد من ذلك، وكم في السفر من فوائد.
ولقد عبّر شاعرنا عن محبة البراري، وألفة الصحاري، من خلال عناوين دواوين شعره التي تحمل كلمات ظاهرة الدلالة مثل: القفار، والفيافي، والبوادي، وتليها محميته الشهيرة الواسعة الأرجاء، المترامية الأطراف، التي أرسى قواعدها في منطقة «الشيّط» شمال هضاب الصمان. وثالثها ما أودعه في المحمية بالآلاف عددًا من نوادر الطيور والغزلان والنعام، وما غرسه فيها من عشرات الآلاف من النخيل بأصنافها، إضافة إلى أشجار السدر والرمث، ومبانٍ تصف تليد التراث العمراني المعروف في الخليج وشبه الجزيرة العربية.
ثمّ أتم هذه الرباعية بإطلاق قناة «البوادي» الفضائية الحافلة بأخبار الأوائل من الشعراء والفرسان والنبلاء والكرماء، والمتخصصة ببرامج الشعر والصيد والفروسية والبادية؛ وإنه لعشق ملأ القلب واللسان، وشغل العقل والروح بمحبة كل ما يمت لهاتيك البيئة العربية، وفي مقدمتها الدين، واللغة، والتاريخ، والتراث، وإنها لرباعية من الحب السامي لمن تأمل بادية.
ومن رباعياته اللافتة عصامية بارزة في التجارة والصناعة، وذاتية باهرة في التعليم والتكوين المعرفي، وريادة مبكرة وإنفاق سخي غير مسبوق في ميادين الثقافة والآداب والفنون، وأعمال مؤسسية محلية وعربية وعالمية عابرة للقارات تحمل اسم بلاده الكويت، وتنسجم مع توجهاتها وتطلعات قادتها في تعزيز الرخاء والسلام العادل، وتأكيد الإخاء البشري بين الثقافات والشعوب، حتى صار علم الكويت الوطني حاضرًا يرفرف عاليًا في الكليات والمكتبات والمدارس والمعاهد والمراكز التي يرعاها الشيخ الجليل، وفي المنظمات الدولية والجامعات التي يؤازرها، وصارت تلكم البلدة الوادعة الواقعة على ضفاف الخليج مقدر أهلها، موقر أكابرها، محفوظ فضلها، مرجو خيرها، فأيّ بركات متواليات ساقها المولى عزَّ وجلَّ على يد رجل واحد فقط لقومه وديرته ومرابعه ومنابته حتى شهد بمآثره الجميع.
فليس والحال هذه من المبالغة في شيء حين أصف الوجيه البابطين بأنه يشارك أربع وزارات في مهامها الجسام تطوعًا من تلقاء نفسه، وبتوافق وتناغم فريدين مع تلكم المؤسسات، فهو يؤسس لعلاقات طيبة ووثيقة مع الزعماء ورؤساء الوزارات والوجهاء؛ فتمهد الطريق لاستجلاب المنافع ودفع الضرر مثلما تفعل وزارة الخارجية، ويرسم صورة حسنة عن بلاده وأناسها الطيبين كما لو كان وزارة إعلام، ويحافظ على أركان ثقافته وينشر معارفها كأنه وزارة مختصة بالثقافة، وينافس وزارة التربية منافسة شريفة في تشييد دور العلم، وبناء المناهج، وتأهيل الأساتذة، وإرسال المنح الدراسية إلى أصقاع الأرض.
أما على صعيد اللغة العربية فللرجل أعمال تنتظم تحت أربعة عناوين كبيرة، أولها الحفاظ على اللغة العربية والاعتزاز بها، وثانيها نشر اللغة وحرفها، وثالثها العناية بالشعر وتذوقه وإحياء أسواقه، والرابع التدريب على الخطابة والإلقاء وإتقان علم العروض؛ فلكأن الرجل الذي غذته الصحراء، وانفتق لسانه بين أرجائها الواسعة، واستعذب بيان الأوائل في لغة آبائه العرب الميامين حتى جاراهم بقرظ الشعر، قد آل على نفسه وأبت مروءته أن تضمر هذه اللغة العزيزة المنيفة، أو تُهدر مكانتها الشريفة لضعف بنيها وتأخر بلدانها، فدافع عنها ونافح، وأنشأ لأجل ذلك مؤسسة ثقافية كبرى منذ أربعة عقود، مقرها الرئيس في الكويت، ولها أفرع منتشرة في عدد من الدول والقارات.
ومن قوة الشكيمة، ومضاء الإرادة، أن وضع البابطين على عاتقه تأسيس وتمويل أكثر من ستين كرسيًا للغة العربية في عشرات الجامعات العربية والشرقية والغربية، وتبنى مشروع التعريب في جزر القمر، وهو لعمركم مشروع ضخم في فكرته وطريقته ومستقبله؛ ولذا فلا عجب حينما تختار هيئة الأمم المتحدة الشاعر عبدالعزيز البابطين من بين مئات الملايين الناطقين بالعربية، وتمنحه جائزة اليوم العالمي للغة العربية، بل ولا يستغرب أن تطلق جامعة أكسفورد وهي أعرق جامعة في العالم اسم عبدالعزيز البابطين على أقدم كرسي فيها للغة العربية الذي أنشأته الجامعة قبل أربعة قرون! وإن ابنة عدنان لنسيبة، كريمة، رفيعة، جميلة، لا يستحقها إلّا من هو أهل لمقابلة هذه السمات الأربع!
ثمّ كان من خبره الشعري أن أسس مكتبة شعرية ضخمة على مستوى العالم، واختار لها مكانًا فخمًا في قلب الكويت العاصمة، وأقام للشعر العربي ملتقيات سنوية، ومهرجانات موسمية، وخصص له الجوائز المغرية المتنوعة، وأفنى شبابه في مطاردة نفائس مخطوطات الشعر ونوادر القصائد كما يطارد فرائسه في رحلات المقناص، وهذه الرباعية الشعرية بين المكتبات والملتقيات والجوائز والمخطوطات، يسبقها رباعية أهلّت الشاعر البابطين لدخول عالم الشعراء؛ فوالده شاعر نبطي، وعم والدته «ابن لعبون» الشاعر النجدي الشهير، وديوانية أخيه الأكبر الشيخ عبداللطيف تستضيف الشعراء منذ ثمانين عامًا، وأولع شاعرنا منذ يفاعته بقراءة الدواوين وتوقير الشعراء الذين يراهم جنسًا مختلفًا من البشر يستحق الإفراد بالتوقير والتحية!
كما طبع رجل الأعمال المولع بالثقافة مئات الإصدارات المتسلسلة في مجال الشعر والشعراء، وجمع الدواوين المفرقة قصائدها أشتاتًا، وأصدر معلمته التأريخية النفيسة «معجم البابطين للشعراء» الذي بلغت أجزاؤه المطبوعة حتى يومنا أربعة أضعاف العشرين أو أزيد، والعشرون وحدها كثيرة! وبثّ هذه الإصدارات في كبريات المكتبات العامة في حواضر الثقافة وعواصم الشرق والغرب، وأتاحها لمن طلبها، وبذلك يكمل رباعيته الأخرى هنا.
ومن التجرد لدى الشاعر البابطين، أنه طلب من اللجان المسؤولة عن إصداراته المعجمية، ألّا يدخلوا ترجمته أو شيئًا من أشعاره ضمن المعاجم التي أنفق ماله بسخاء على تأليفها وطباعتها إلّا بعد فحص شعره، والموافقة عليه من أعضاء مستقلين بصراء بالشعر والنقد؛ كي يدخل اسمه وشعره باستحقاق لا كما يفعل بعض المفتونين من أهل الخفة مع سامج كلامهم وساذج محاولاتهم.
وامتنانًا لهذا العطاء الدفاق بلا منن في نصرة الشعر وعلومه وأهله وأربابه، وعرفانًا بأياديه البيض الحسان على الشعر ومحبيه الخالية من طلب أيّ جزاء أو شكور، فقد انتخبته الأكاديمية العالمية للشعر رئيسًا فخريًا لها منذ خمسة عشر عامًا، ولا يزال أبو سعود يتربع على عرش هذه الأكاديمية الدولية، ويزيد من شواهد استحقاقه لهذا التكريم يومًا بعد آخر، علمًا أن هذه الأكاديمية تُعدُّ أكبر محفل عالمي للشعر، وتتخذ من الجمهورية الإيطالية مقرًا لها.
ومن نشاط ابن الكويت البار في المجال التعليمي بناء عشرات المدارس التي تحمل اسم الكويت ورموزها، وإنشاء الكليات والمراكز والمعاهد التي تنير العقول وترفع الوعي، وتنمي المحبة والولاء لبلد الراعي، إضافة إلى التزامه ببرنامج ابتعاث حيوي ومحوكم بأنظمة ولوائح وأدلة، أطلق عليه اسم والده الراحل، وخصصه لإيفاد بعثات تعليمية للدراسات الجامعية والعليا تشمل البكالوريوس والماجستير والدكتوراه في الولايات المتحدة وأوروبا، وهي لأبناء الكويت والخليج.
ويقابلها منح تعليمية لأبناء المسلمين في أوروبا وآسيا وإفريقيا للدراسة في الأزهر، إضافة إلى مسار خاص لابتعاث عدد من الطلبة الأمريكيين لدراسة اللغة العربية وعلومها في جامعات عربية. كما تتكفل بعثة البابطين بجميع نفقات السكن والتعليم والسفر والإقامة، وكذلك المأكل والملبس والكتب والمصروفات الدراسية والعلاج، ويضاف لها مكآفات التفوق لهؤلاء الطلبة طيلة وجودهم بالبعثة. وقد بلغ عدد المستفيدين من بعثاته، والدارسين على نفقاته عشرة آلاف طالبٍ وطالبة ابتداء من عام (1974م).
ومما يذكر من باب التحديث بالنعمة، أن أول الطلبة التحاقًا بهذا البرنامج المبارك قبل نصف قرن هو اليوم استشاري بارع يناهز السبعين من عمره، ويُعدّ واحدًا من أبرز أطباء العالم وأعرفهم بأمراض السكري والغدد الصماء، ناهيك عن عدد من طلبة البابطين الذين أصبحوا فيما بعد رجال دولة ودبلوماسيين بل وسفراء لبلدانهم لدى دولة الكويت، وإن طول عمر هذا البرنامج ليؤكد على أن هذا العمل قد خالط وجدان الرجل حتى صار جزءًا من حياته، ومركزيًا في قائمة أولوياته.
بيد أن الشيخ المعطاء لم يكتف بذلك وفي بعضه كفاية وزيادة، إذ له في عالم الترجمة سبق وحضور تجاوز به فنون الشعر إلى التقنية والذكاء الاصطناعي ومنتجات العلوم الحديثة، وعنده في عالم الطباعة الورقية والإلكترونية آثار منظورة منتشرة متاحة، وله في الجوائز المحفزة ما يستثير الهمم، وينشط الطاقات، ويبعث المواهب من مرقدها، وفي مبادراته دفع للشبان على وجه الخصوص صوب محيط الثقافة وشؤونها، بصنع عدد من الفرص والمناسبات التي تجتذبهم إلى محيطها، وتنقذهم من وحل التفاهة، ولجج الفراغ والخواء.
ولا يمكن لمن تابع مسيرة البابطين أن يُغفل البعد الإنساني في تحركاته ومجالات إنفاق مؤسساته؛ فمن ذ لك إسهاماته التنموية في المجالات الطبية، إذ أسس في الكويت مركزًا طبيًا للحروق والجراحات التجميلية، ويقول العارفون إنه لا يقل في تجهيزاته وطواقمه عن المراكز العالمية، وآخر في الدمام لطب وجراحة القلب. وبنى عددًا من الصالات والقاعات الضخمة التي تستضيف المناسبات الاجتماعية والثقافية في كل من الرياض والمنطقة الشرقية وفي فلسطين، إضافة إلى أنه شيّد عددًا من المساجد والجوامع في الدول الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفيتي وفي القارة السمراء، وأكرم بالمساجد وبناتها مع هذه الرباعية وبدونها.
بناء على ذلك فليس بمستعجب أن يكون للشيخ علاقات ممتدة وإيجابية مع ساسة وزعماء حتى أصبح بعض رؤساء الدول يبادر لاستقباله في المطار وتوديعه، مع أن الشيخ بلا صفة رسمية ولا يحمل حتى جوازًا دبلوماسيًا، وفوق ذلك تدعوه منابر هيئة الأمم المتحدة في نيويورك وجنيف للحديث من على منصاتها ثلاث مرات، وتُفتح له قاعات مقر الاتحاد الأوربي في العاصمة البلجيكية بروكسل لاستضافة منتدياته الثقافية وحواراته العربية – الأوروبية.
كذلك تحتفي به الجامعات العريقة وتمنحه شهادات الدكتوراه الفخرية، وتصبح له مكانة خاصة لدى حكام بلاده، حتى أن الديوان الأميري حلّ في ديوان البابطين قريبًا من ثمانين يومًا بعد تحرير البلاد من الاحتلال الغاشم، والشيء بالشيء يذكر؛ فمن حسن تقدير البابطين وكمال ضيافته أنه ابتعد ونأى عن ديوانه إبان إقامة رأس البلاد وأميرها المحبوب فيه. ومن حفظ الله لديوان أبي سعود أن سَلِمَ من أذى جنود المحتل وجحافله؛ فما لحقه أدنى تخريب مثل غيره، والسبب أنه على طراز أندلسي فاخر قد راق لقادة الاحتلال الذين عقدوا نواياهم المجرمة على طول الإقامة فيه؛ بسبب أندلسيته الفاتنة!
الأندلس تلك البقاع البهية الأنيسة التي لها عند أبي سعود رباعية فريدة، فهو الذي وضع الجوائز لحفظ تاريخها المتصل بأمتنا، وأقام البرامج الأكاديمية التدريبية للمرشدين السياحيين من أهلها كي لا تنطمس سيرة مجيدة بدأها طارق بن زياد ومن بعده، وليس هذا فقط، فله عدد من الكراسي العلمية في جامعات إسبانية، وجهود لا تحصى لنشر اللغة العربية وتعليمها هناك، وقلّ أن تجد مكرمة تعليمية أو ثقافية صدرت عن البابطين وليس لبلاد الأندلس منها نصيب.
وإن اهتمامه بالأندلس لم يزاحم التفاتته لفلسطين من خلال مكتبة البابطين الكويتية في القدس، وجائزة البابطين الكويتية للشعر العربي في فلسطين، وتخصيص فلسطين بأعمال إغاثية، وتعليمية، ومنح دراسية بميزات خاصة لطلابها. وكان من بصيرة الشيخ عبدالعزيز توزيع أعماله في بلدان أوروبية تروج فيها أفكار مغالطة عن ثقافتنا، واغتنامه أيّ فرصة للتأكيد على أن أمة الإسلام هي أمة السلام العادل الذي يجب أن يسود.
لذا فليس بغريب ما نال من جوائز وأوسمة، أو أقيم عنه من مؤتمرات وملتقيات وندوات، أو صدر حوله وعن شعره وأعماله من كتب ودراسات ورسائل علمية، وما حظيت به أعماله من رعاية الدول وزعمائها من ساسة ورؤساء وزارات وبرلمانات وعلماء ومثقفين، حتى أصبح للشيخ عبدالعزيز سجل ضخم من الصور مع رؤوس في أقوامهم، وسروات في بلدانهم، سعوا إليه من تلقاء أنفسهم للتعبير عن التقدير والتوقير والثناء على نفاسة شخصه وصنائعه الخالدة.
ومما حظي به من هذا الباب سبع عشرة شهادة دكتوراه فخرية، وعشرون وسامًا وجائزة واحدة منها لم يسبقه إليها سوى الزعيمان مهاتير محمد وأردوغان، وثمانية وسبعون تكريمًا في بقاع عديدة قريبة وقصية، ولدواع مختلفة، تشهد أجمعها للرجل بالعمل العريض المستوعب لشؤون كثيرة، ويضاف لها تسعة كتب ودراسات أكاديمية عن شعره وسيرته وأعماله صدرت ضمن أوراق ندوات علمية، أو في رسائل جامعية، ولعلّ الجميع على انتظار متلّهف وترقب مستعجل لظهور مذكراته الشخصية التي تحكي قصة فرد مكافح من أسرة عريقة واسعة الانتشار في البلدان العربية، شقّ الطريق الطويل غير المعبّد وهو يحمل عبء أربع صفات مجتمعة، فهو الموظف، والتاجر، والمثقف، ورب الأسرة، في آن واحد معًا.
وللسلام العادل عند أبي سعود مكان تربع في القلب وله رباعية من جنس ما يعقده من منتديات عالمية، أو تأليفه كتابًا قدّم فيه سبع قواعد أساسية لصنع السّلام، وسبع وسائل عملية لتحقيقه، ومنها إنجاز مقررات نموذجية عن السلام العادل، بهدف تدريسها للطلبة في مختلف المراحل الدراسية، ضمن المناهج التربوية والتعليمية عالميًا، وإقامة دورات حول حوار الحضارات والتعايش السلمي برعاية اليونسكو.
وإن يكن السلام كذلك عند البابطين فهو نابع من دينه وإسلامه الذي خدمه بكل أعماله ومن أبرز رباعيتها الحرص على تعليم القرآن الكريم ولو بواسطة شيخ كبير في صحراء نائية، وبناء المساجد والعناية بها، والحرص الكثيف على تصحيح الفهم للدين وتصويب التصور العالمي عنه، ونشر العلم الشرعي وتيسير سبل سلوكه من خلال البعثات والمنح، وتدشين الجوائز مثل جائز ة أحفاد الإمام البخاري.
وفيما مضى من أيام ابتليت البلاد التركية والشامية بزلزال مدمر يندر حدوث مثله في القوة والأثر، وزاد من لأواء أهل سورية ما تعيشه ديارهم من أحداث، فلم يقف الشيخ المحسن البابطين مع الحدث الأليم موقف الداعم بماله مباشرة فقط، أو بحث غيره فقط، أو بالتحزن والدعاء لإخوانه فقط، وإنما تكفل بمضاء بلا تردد بجميع ما يخص ثلاثمئة طفل مناصفة بين الجنسين، وهي رعاية شاملة في جميع شؤونهم، إلى أن يغدو كل واحد منهم قادرًا على الاستقلال الذاتي، والاعتماد على نفسه.
ولن أترك المقام دون الإشارة إلى خصلة الوفاء لدى ابن الصحراء وخبيرها، فمن وفائه أنه نسب كثيرًا من جلائل أعماله لوالده الشيخ سعود البابطين، وأطلق عليها اسمه، وبنى مدارس ودور علم بأسماء رواد التعليم في مجتمعه. ومن الوفاء ديمومة الرفقة معه إن في رحلات القنص والبر، أو في الارتحال لزرع الخير ونشر الفضائل، واستمرار صداقات الطفولة والصبى إلى يومنا هذا دون التفات لفوارق المراكز المالية والمكانة الاجتماعية.
وإن أسلو فلن أسلو عن حكاية تاجر أفغاني كسر الزمان شوكته؛ فأقال أبو سعود عثرته، وأقام له عمود تجارته من جديد، وابتعث ولده للدراسة حتى غدا طبيبًا جراحًا، وهكذا فعل مع شعراء ومثقفين حمل ذريتهم الضعيفة بعد أن تركوها بعاجل الموت أو مباغت الغياب، ورابعة خصّ بها بلاده، وقومه، وأهل دينه، حين رفع أسهمهم واسمهم، ونفى عنهم تهمة التخمة بالنفط، وأزال فرية القسوة المصوبة نحوهم، وأبان عن كرم المحتد فيهم، وأصالة التعاليم الدائرة بينهم والحاكمة عليهم.
عليه مرة أخرى فعمّ أكتب أو أتحدث؟ فجهود الرجل شملت مهام واختصاصات ومسؤوليات أجهزة حكومية، ومجامع لغوية، ومؤسسات علمية، ومراكز بحثية، وأندية أدبية، وملتقيات شعرية، وجهات مانحة، وجوائز عالمية، ودور نشر، وجمعيات إغاثة، وصار لبلاده على وجه الخصوص، ولأهل حضارته ولثقافته التي يمثلها قوة ناعمة تسري بلا عوائق؛ فتزيل الرواسب، وتقشع الغشاوة، وتبين السبل، وتضئ الظلمة، ولم لا ففي عمله الطويل عماده العظيمة مساحته إنارة عقل، وصناعة وعي، وحفظ مكونات أمة وأركان ثقافة، وأنواع من صنائع المعروف للناس قاطبة، والواحد منها يقنع العاقل، ويبهر المراقب، ويلجم المغالط، ويكسب المنصف.
فلو كان البابطين مع العرب الأوائل لقال له قائلهم: لك المرباع فينا والصفايا، وحكمك والنشيطة والفضول، ولعلّ الله قد أبدله بما هو خير؛ حين يكون للمحسنين إمامًا، وللمنفقين قدوة، وعلى أهل عصره من ذوي القدرة والثروة والجاه حجة بانتصاره على حب المال جمعًا وكنزًا؛ فهنيئًا له هذه المآثر وتلك المغانم، وهنيئًا للكويت وجاراتها بنجلهم البار، وهنيئًا للأمة أن يكون في أهل الجدة والسعة منها من تسمو به همته لشأن رفيع عليٍّ لا يكاد أن يلتفت إليه أحد من كبراء الناس بَلْهِ عامتهم سوى من اصطفاه الله لهذه المنجزات العظائم، والله يتقبل، ويزيد، ويبارك، ويديم له الإحسان وموفور العافية.
وأخالني لو قسمت الهجائية العربية المكونة من ثمانية وعشرين حرفًا في مجموعات رباعية، داخل كل واحدة حزمة سباعية من الحروف، لتسابقت بل تطايرت مكوناتها، وانتظمت في صفوف متراصة مشرئبة الأعناق للحديث عن رجل سخر نفسه، وجاهه، وماله، ووقته، لخدمة بلاده، وثقافته، والعرب، والعربية، في نثرها، وشعرها، مع استحياء حرفها، وإشاعة تعليمها، فما سبق ليس بدعوى عريضة، ولا خيال جامح، ولا أمنية حالم، وإنما هو يقين واقع مشاهد عليه في العالمين شهود وشهود.
إن الزمان حين يقف في ساعة صدق، ناظرًا إلى رجل شاعر جمّ المشاعر، وإلى كريم نافس بجوده ما يروى عن الأوائل، قد يحتار فيما يقوله مسهبًا أو مختصرًا، لكنه ربما يُهدى إلى الاختصار والاقتباس من معين الشاعر عبدالعزيز البابطين نفسه، استدلالًا بناصع قول أبي سعود المبين، والمعبّر عن نفاسة نفسه، ونقاء جوهره المسكون بالعطاء والإنفاق حين يقول:
خلّد سجلك فالبقاء قليل
إن الزمان بعمره لطويل
واسكب عطاءك للجميع فإنه
يبقى العطاء وغيره سيزول
واعلم بأن الفرد ينقص قدره
إذا عاش بين الناس وهو بخيل
سطِّر على صدر الزمان شمائلًا
تروي العصور شمائلًا وتقول
أبدعت فكرا نيرًا يا جهبذًا
وبذلت جهدًا عاليًا سيصول
أخيرًا يا رعاك الله؛ فقد لا تستطيع أن تفعل كثيرًا مما ورد أعلاه، لكنك تقوى على حب الخير وأهله، وتستطيع شكر ذوي الفضل والنعماء البعيدين عن البطر والفساد، ويمكنك نشر مفاخرهم كي يكونوا لغيرهم قدوة، ورابعها أن تبقى حسن الظن بأمتك الباسقة المنجبة، وبأهلها الصيد ذوي المناقب، وإن واحدة من هذه الخصال الأربع تجعلك شريكًا في الأجر والثواب، وسببًا من أسباب مشروعات الخير، وبرامج النماء، فلا تتوانَ عن المغانم والمكاسب، فهذه الطريق مستبينة أمامك، ولك أن تسلك منها ما شئت منها مثنى وثلاث ورباع!
** **
د.أحمد بن عبدالمحسن العساف - الرياض
@ahmalassaf