د. تنيضب الفايدي
تعتبر العلا من أهم وأقدم المدن إطلاقاً في الجزيرة العربية، حيث لم يعرف بداية تاريخها على وجه الدقة إلا أن العلماء مجمعون على أن تاريخها يعود إلى ما قبل الميلاد بآلاف السنين، وقد مرّت عليها عدة حضارات، ما عرف منها حضارة: قوم ثمود، مملكة ديدان، مملكة لحيان، دولة معين ودولة الأنباط وأمم أخرى، وقد تركت كلّ أمة حضارة تمثلت البصمات التاريخية والأثرية متمثلة بالنقوش والمباني والمعابد والأدوات والمنشآت الحجرية وغيرها، لذلك يطلق (الكاتب) على العلا طبقات التاريخ، حيث يقف الإنسان حائراً مبهوراً أمام هذا الإرث الحضاري العظيم وتغلفه الدهشة والإثارة كلما تعمق في هذا الإرث, ومن هذا الإرث الحضاري العظيم الحوض الدائري المنحوت في الصخر في الخريبة الذي يطلق عليه أهل المنطقة (محلب الناقة)، بينما يرى بعض العلماء والمتخصصين أن هذا الحوض كان يتوسط معبداً بُنِي لكبير المعبودات اللحيانية وهو المعبود ذو الغيبة؛ وذلك استناداً على ما جاء في النقش المدون على قاعدة أحد الأعمدة الذي وجد في الموقع، ويبلغ قطر هذا الحوض 370سم وعمقه 220سم، وبداخله ثلاث درجات منحوتة في الصخر وذلك لكي يسهل النزول إلى وسط هذا الحوض، وتعدّ دقة استدارة هذا الحوض عملاً هندسياً رائعاً، وهذا الحوض كان يستخدم لتخزين المياه، وقد تكون له علاقة بماء الطهور الخاص بالطقوس الدينية المرتبطة بمعبد (ذو غيبة)، وليس للحوض علاقة بمحلب الناقة أي: ناقة صالح عليه السلام التي عقرها قومه ثمود، وقد جاء ذكر قصتهم في القرآن الكريم في أكثر من سورة، قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} (11-15) سورة الشمس. وقال تعالى: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (155-159) سورة الشعراء.
ولم يعد باقياً من المعبد سوى الحوض وبعض أساسات الجدران، وبعد أن أزيلت طبقات الأرض ظهرت المدينة القديمة، وبروز الحوض يظهر بأنه خزان للماء سواء للاغتسال والتطهر للعبادة أو غيره، وقد ذكرت بعض المصادر وجود بقايا معبد لذي غيبة حيث يتم الوصول إليه عن طريق الدرج الذي نحت من أسفل الجبل إلى أعلاه وقد تآكل الدرج حالياً نتيجة التعرية، وظهرت أخيراً مدينة كاملة تحت تلك الصخرة بأبنيتها ذات الصخور الضخمة وشوارعها المنظمة.
والسؤال متى كانت هذه المدينة عامرة ومتى اندثرت وغطيت بالرمال؟ وهذا الخزان يعتبر معجزة، حيث يمثل صخرة واحدة من الصعوبة بمكان تحريكها أو رفعها مهما كانت قوة الأشخاص وهي بعيدة عن الحجر بما يقارب عشرين كيلومتراً وتحتاج إلى دراسة: أهو فن النحت لصخرة ضخمة حولت إلى خزان أم أن هناك صناعة وجدت في عصر من العصور لخزانات مشابهة، ووقف الكاتب شاباً (1390هـ) على تلك الصخرة ولم يكن حولها أي دليل على وجود مدينة تحتها كما أن بُعد الحجر عن العلا آنذاك ولّد لديه سؤالاً في ذلك الوقت ما الذي يأتي بالناقة من عشرين كيلاً لتحلب هنا ثم تذهب إلى الحجر واتضح أخيراً أنه لم يكن محلباً وإنما خزان للماء لتوزيع الماء للمدينة التي تحته.