رضا إبراهيم
من خلال منظور مستقبلي برز مصطلح «الجيوبولوتيكية» باعتباره علم سياسة الأرض، أي دراسة تأثير السلوك السياسي في تغيير الأبعاد الجغرافية للدولة، وذلك المفهوم يتداخل مع مفهوم علم الجغرافيا السياسية، والمعني بدراسة تأثير الجغرافيا «الخصائص الطبيعية والبشرية» في السياسة، أي دراسة تأثير الأرض من نواحي البر والبحر والمرتفعات والموقع والثروات وانعكاساتها علي السياسة، في مقابل سعي السياسة للاستفادة من كافة مميزاتها.
والجيوبولوتيكية تعالج مشاكل الدول ومجتمعاتها في علاقاتها مع أراضيها وذلك داخل واقع سياسي قوامه «نموذج الدولة» ذات الحدود السياسية الواضحة، التي تعبر عن حرص الدولة ومجتمعها على ملكية أراضيها، وعدم التفريط بأي جزء منها، ويمكن أن تكون الجيوبولوتيكية أداة في يد «المخذول» صاحب المصير المأساوي، يواجه بها تصرفات وأفعال المنتصرين في أراضيه.
هذا وكان أول من استخدم مصطلح الجيوبولوتيكية المفكر السويدي رودولف كجلين (1864 - 1922م) في بداية القرن العشرين في كتابه (عن القوى الكبرى) والذي تمت إعادة طباعته باللغة الألمانية (19) مرة في أقل من عقد زمني، حينما عرفها بأنها البيئة الطبيعية للدولة والسلوك السياسي، أعقبه ظهور عدة نظريات تحليلية في الجيوبولوتيكية، أهمها نظرية القوة البرية أو قلب الأرض التي صاغها الجغرافي البريطاني هالفورد ماكيندر (1861 - 1947م)، ونظرية القوى البحرية التي حددها ضابط البحرية والمؤرِّخ الأمريكي الفرد ثاير ماهان (1840 - 1914م).
ثم نظرية الجيوبولوتيكية الألمانية الموضحة من قبل عالم الجغرافيا الألماني كارل هاوسهوفر (1869 - 1947م) ومن خلال الجيوبولوتيكية تم وضع نظرية سياسية تُحدد صورة حركة صراع الدولة، لاعتبار الدولة كائناً عضوياً، وتم طرح فكرة الحدود الشفافة للدولة، ومع التقدم الكبير بعلم صنع الخرائط من خلال الاستكشاف المكثف، وبمساعدة الجيوبولوتيكية والتطور التقني الذي أعطى رسامي الخرائط الأوروبيين نظرة فاحصة على المناطق، التي لم يتم استكشافها من قبل، تم الكشف عن العديد من الجزر كـ(الهند) على أنها شبه جزيرة، وبذلك استخدمت الجيوبولوتيكية وما أفرزته من قدرة على رسم الخرائط بشكل متزايد من قبل القوى الاستعمارية الأوروبية، لتأكيد هيمنتهم على جزء كبير من العالم.
والجيوبولوتيكية تتناول الأراضي المطموع بها (حالة ألمانيا القيصرية)، ففي قمة مجد الجغرافيا الألمانية لم تكن دراسات الجغرافيين الأكاديميين تؤخذ في الحسبان من قبل صانعي القرار في الدولة، أو من قبل مؤسسات الاقتصاد ذات الطموحات الاستعمارية، وفي منتصف القرن التاسع عشر، ومع تعزيز الروح القومية للمثقفين والاقتصاديين، انشغل نفرٌ منهم في العمل على تحقيق روح الوحدة الألمانية وبناء دولة الأمة الألمانية.
لكن كل تلك الأحلام يصعُب تحقيقها، سوى على مساحة جغرافية محدودة ملك لها ولشعبها، وبذلك بات للجغرافيا وللجغرافيين مهمة تتمثَّل في تعيين تلك الأراضي بمساحتها وحدودها، وفي نفس الحالة الألمانية، فمن الواجب كذلك تعيين الأراضي التي تريدها أو تلزمها (المضافة) كونها دولة لها طموحات استعمارية كبيرة، مثلها مثل باقي الدول الأوروبية الأخرى، وتعني الأراضي المضافة، التي تلزم الدولة أيضاً هي الأراضي التي تقع فيما وراء البحار، لأن الدولة الألمانية المرجوة هنا يترتب عليها مجاراة الدول الأوروبية عامةً، والتي لها مطامع استعمارية على نمط ما كان سائداً في الأجواء السياسية الأوروبية عامةً.
وفي ثمانينيات القرن التاسع عشر، نجحت ألمانيا بقيادة رجل الدولة والسياسي أوتو بسمارك (1815 - 1889م) من تحقيق الوحدة، وباتت ألمانيا بذلك قوة عظمى منافسة للدول الأوروبية الأخرى، وهي منافسة تعدت الأراضي الأوروبية لتصل للأراضي التي تقع فيما وراء البحار بالقارات الأخرى، علماً بأن ذلك التنافس الحاصل بين الدول الأوروبية ذات الأطماع الاستعمارية الاقتصادية، كان من الوجهة الثقافية السياسية نتاجاً لمعتقدات اجتماعية راسخة في التفوق العنصري، تحوي في طياتها تمجيد القوة والنزوع نحو التحكم بالمجتمعات الأخرى والسيطرة على أراضيها.
وبذات الوقت ظهرت شكاوى الجغرافيين الأكاديميين الألمان جراء ذلك، لاعتبار أن دراستهم وأبحاثهم التي تتناول الأراضي البعيدة والمنتشرة بالدوريات العلمية العامة، كانت نتائجها تذهب إلى الدول الاستعمارية الأخرى، بسبب إهمال صنَّاع القرار الألمان نتائج تلك الدراسات، إذ إن شركات ومؤسسات الاقتصاد بألمانيا لم تكن تعتمد على دراسات جغرافية أكاديمية في الأراضي المراد استعمارها، بل كانت هذه المؤسسات أو الشركات ترسل بعثاتها الجغرافية الخاصة بها لاستكشاف تلك الأراضي، فالدراسات الأكاديمية كانت بحكم أكاديميتها بعيدة عن الالتزامات والمفترض منها جني الفوائد بصورة مباشرة، سواءً كانت فوائد اقتصادية أو إستراتيجية.
أي أن النجاح الأكاديمي في البحث، كان يتحكم فيه الاهتمام العلمي أكثر من الاهتمام الخدماتي المباشر، لكن الألماني مؤسس علم الجغرافيا الحديثة فريدريك راتزل (1844 - 1904م) كان من بين صفوة الأكاديميين ممن كانت دراساته وتوصياته تجد صدوراً رحبة، وتلقي أصداء إيجابية بدوائر صنع القرار الألماني على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والإستراتيجية.
وفي حالة نابليون بونابرت (1769 - 1821م) كانت الهيمنة الشخصية للجنرال العسكري ذائع الصيت على القارة هيمنة انتقالية، لكن الإصلاحات التي بدأها بالحياة العامة في أوروبا تظل إطاراً يتم من خلاله متابعة هذه الحياة العامة، كما بدت هيمنة نابليون على أوروبا الغربية والوسطى هيمنة جيوبولوتيكية في عصرها، ومثَّلت واقعاً سياسياً دمر وأعاد تشكيل الحدود والأنظمة القائمة.
والتي كان لا بد من إعادة صياغة معظمها بعد خيبة أمله في مؤتمر فيينا (1814- 1815م)، ما يعني أن أساس عملية توسع نابليون عبر أوروبا بحد ذاتها، كانت نتيجة الجيوبولوتيكية ونتاجاً لسلسلة خيارات اتخذها نظام نابليون في مراحله المبكرة، وأيضاً استجابة للوقائع الجيوبولوتيكية بعد أن ورثها نابليون عن الأنظمة الفرنسية الآنفة، كما عمل نابليون على السيطرة على قارة أوروبا وجاهد كثيراً لتدعيم قوة (برية - بحرية) تمكنه من سحق القوة البحرية البريطانية، لكن حروبه مع بريطانيا بمنتصف القرن الثامن عشر، أدت إلى تقليص الإمبراطورية الفرنسية إلى حد كبير بأمريكا الشمالية، وأنهت كل طموحاتها الناشئة لتأسيس وجود في شبه القارة الهندية.
وسرعان ما تم تقليص الأراضي الفرنسية بالعالم الجديد، وهذه الخسائر الساحقة بالموارد وفقدان الأراضي هي ما دفع القيادة الجديدة لنابليون للعمل سريعاً كمحاولة أخيرة لإحياء إمبراطورية تجارية بالمحيط الأطلسي، وكانت آخر محاولتها الثورية دليلاً قد أظهر بالفعل طموحاتها الاستعمارية، عندما أُرسل نابليون في رحلة استكشافية فاشلة ومشؤومة عام 1798م للاستيلاء على مصر، ونجحت فقط برؤية أسطوله الضخم بعد أن دمرته البحرية البريطانية في معركة «أبو قير» البحرية عام 1798م، وترك قوات نابليون المهلهلة.
ومع مرور العقود وعقب نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع خروج الولايات المتحدة منتصرة واعتبارها قوة عظمى عالمية، خرج في نفس الفترة أيضاً مفهوماً جديداً لنظرية الجيوبولوتيكية عُرف بـ(الحدود الشفافة) وهو مفهوم يقصد بها هيمنة الجانب الأمريكي عسكرياً واقتصادياً، دون حدود خرائطية للدولة أو ما يعرف بجغرافية السيطرة دون إمبراطورية، وذلك التعريف يُعد أفضل تجسيد لتطوير الأفكار الجيوبولوتيكية بعيداً عن الأِطُر التقليدية للنمو العضوي للدولة، وفي سبعينيات القرن الماضي تحدث بصراحة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر عن مفهوم الجيوبولوتيكية فقال «إن الجيوبولوتيكية هي لعبة تحقيق التوازن في القوة والسياسات، التي يضطلع بها اللاعبون على الخارطة السياسية العالمية».
ويشير الباحث الياباني وخبير الجغرافيا هيديفومي نيشياما إلى فكرة مهمة عن الاستعمار في الجيوبولوتيكية المعاصرة، عبر مراقبة نشأة وتكوين وأصل التورط البريطاني والأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، والذي يطرح إشكالية ما يُسمى «الحرب على الإرهاب» في أوائل القرن الحادي والعشرين، على أنها استمرار وإن لم يكن بالضبط نفس الجيوبولوتيكية الاستعمارية التي وضحت في غزو العراق عام 2003م.
وزاد نيشياما أن الدراسات الحالية بالجغرافيا والعلوم الاجتماعية والسياسية أظهرت على نطاق أوسع أن الأشكال المباشرة للسيطرة الاستعمارية الأمريكية، ما زالت حيَّة إلى حد كبير حالياً، والمؤكد أن تحليل الحروب والصراعات والتدخلات في أماكن مثل العراق وأفغانستان مهم لفهم الجيوبولوتيكية واستمرار الاستعمار، وهناك أيضاً مواقع أخرى لا تقل أهمية عن الجيوبولوتيكية الاستعمارية، وهي أقل مباشرة وأقل وضوحاً من مسارح الحرب هذه.