بندر بن حسين الزبالي الحربي
إن من أهم العلوم الإنسانية والاجتماعية دراسة علم التاريخ، أو فن التاريخ كما سمّاه ابن خلدون؛ فعلم التاريخ يدرس الأحداث الماضية من أجل فهم الحاضر وبناء المستقبل، ويعطي تصوّرًا دقيقًا وواضحًا عن أحوال العالم القديم، والتجارب التي مرَّ بها الإنسان؛ وبالتالي تكون هذه الدراسة بابًا من أبواب تجنب الأخطاء التي وقع بها الأقدمون، ويعمل التاريخ على حفظ تاريخ الأمم وتراثها، وهو دروس ماضية تُفيدنا للتخطيط المستقبلي(1).
ومنهج البحث التاريخي هو المراحل التي يسير من خلالها الباحث حتى يبلغ الحقيقة التاريخية -بقدر المستطاع- ويقدمها إلى المختصّين خصوصًا والقراء عمومًا، وتُلخّص هذه المراحل في: تزويد الباحث نفسه بالثقافة والمعرفة اللازمة، ثم اختيار موضوع البحث، عندها يقوم بجمع الأصول والمصادر اللازمة وإثبات صحتها، ويحدّد شخصية المؤلف وزمان التدوين ومكانه، وكذلك يقوم الباحثُ بتحري نصوصِ الأصول ومعرفة العلاقة بينها، وينقدها سلبًا وإيجابًا، ويعمل على إثباتِ الحقائقِ التاريخيةِ، ويعملُ كذلك على تنظيمها وتركيبها وترتيبها ترتيبًا صحيحًا، ويجتهد فيها ويعللها، ويعمل على إنشاء الصيغة التاريخية، ثم إنه يقوم في النهاية بعرضها عرضًا تاريخيًّا معقولًا ومقبولًا(2).
ويحتاج الباحث في التاريخ إلى العلوم الأخرى المساعدة لدراسته وفهمه؛ لمواصلة البحث والوصول إلى الحقيقة قدر المستطاع، يقول ابن خلدون عن فن التاريخ إنه: «محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة، وحُسن نظر وتثبّت يُفضيَان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به عن المزلات والمغالط»(3).
والهدف من دراسة التاريخ هو أخذ العبرة من الماضي لفهم الحاضر واستشراف المستقبل، والتاريخ (أو التأريخ؛ كما كان يكتبه الأولون) علمٌ من أهم العلوم الإنسانية، يسرد الأحداث على مر العصور، وله أهمية كبيرة في صنع مستقبل الأمم، وكما قيل منذ القدم: «الناس يدرسون الماضي بهدف تطوير أنفسهم»؛ فالذي لا يُحسن قراءة تاريخه، ولا يفهم ماضيه جيدًا؛ فإنه حتمًا سيتخبَّط في طريقه، وسيقع لا محالة في نفس أخطاء الماضي؛ لذلك يجب علينا معرفة التاريخ معرفة واعية، ودراسته دراسة جيدة؛ لتجنّب الوقوع في الأخطاء، وتوظيفه خير توظيف في رسم المستقبل، والتاريخ يعلمنا الانتماء الحضاري، والإنسان الذي لا ينتمي إلى حضارة لا يمكن أن يصنع المستقبل.
والمؤرخ يُشترط فيه الصدق والعدل، ويحتاج لمصاحبة الورع والتَّقوى، وألا يغلبه الهوى، ويكون حسن التصور للموضوع الذي يكتب فيه، مع الإحاطة بما ورد من الأخبار والنصوص، وأن يكون حسن العبارة، عارفًا بمدلولات الألفاظ، ويترك غرائب الآراء وشواذها، ولا يسعى إلى الشهرة والمخالفة بمثل تلك الغرائب، ولا يأخذ بالتَّوهُّم والقرائن التي تختلِف، ولا بد من أن يتحرى الدقة لكي يتجنب الوقوع في الأخطاء، ومن صفاته الأساسية عدم التحيُّز.
وعلى المؤرخ أن يكون ذا بصيرة ووعي فيما ينقله عن المصادر، فلا بد من فحصها ودراستها دراسة عميقة للأخذ عنها، مع الاطلاع على سِيَر مؤلفيها ومعرفة آرائهم واتجاهاتهم العلمية؛ فليس كل مكتوب يصح نقله وإثباته.
ذكر ابن السُّبكي (ت: 771هـ) في «طبقات الشافعية»(4) قاعدة في المؤرخين نافعة جدًا حيث قال: «فإن أهل التاريخ ربما وضعوا من أُنَاس، ورفعوا أُنَاسًا، إما لتعصب أو لجهل، أو لمجرد اعتماد على نقل من لا يوثق به، أو غير ذلك من الأسباب».
وأيضًا- نقل ابن السُّبكي عن مجاميع والده(5) ما نصه: «يُشْتَرط في المؤرخ الصدقُ، وإذا نقل يعتمد اللَّفْظ دون المعنى، وألا يكون ذلك الذي نَقَلَه أخذه في المذاكرة، وكتبه بعد ذلك، وأن يُسمّي المنقُول عنه. فهذه شُروط أربعة فيما ينقله»(6)، ثم ذكر شروطًا أخرى فِي المؤرخ.
وقد نقل عنه الصفدي (ت: 764هـ) في «الوافي بالوفيات» (7)، وأيضًا نقل عنه السخاوي (ت902هـ) ثم اختصر باقي الشروط بقوله: «أما ما يقوله من قبل نفسه، وما عساه يُطَوّل فيه من المنقول بعض التراجم دون بعض، فيُشترط فيه أن يكون عارفًا بحال المترجم علمًا ودينًا، وغيرهما من الصفات، وهذا عزيز جدًا، وأن يكون حسن العبارة، عارفًا بمدلولات الألفاظ، حسن التصور، وألا يغلبه الهوى، وأن يكون عنده من العدل ما يقهر به هواه، ويسلك معه طريق الإنصاف، وإلا فالتجرد عن الهوى عزيز»(8).
فالمؤرخ لا يأخذ بنص واحد ويهمل بقيَّة النصوص ليُثبت بذلك شيئًا تهواه نفسه، أو يرى أنه كافٍ له في الاحتجاج على مُخالفيه؛ فيجعل بعض الأقوال بمنزلة الحُجّة الدامغة، ويعتقد أن ما وجده دليل قاطع له في إثبات ما يراه من زاوية ضيِّقة، صارفًا نظره عن التدقيق والتمحيص والمطالعة والتحقق، وعن جمع أقوال العلماء والنظر فيها بالمقارنة والمطابقة؛ فمثل ذلك ليس بمؤرخ، وقد يضل عن الحق ويزيغ عن بيان الحجة للخَلْق.
والاستدلال ببعض الأقوال وترك بعضها الآخر ليس كافيًا لمن يريد التوصل إلى استنتاج معين من أجل إثبات فرضيّة ما؛ وإنما ينبغي للباحث وطالب العلم أن يُورد كلام العلماء وآراءهم ويحتج بها في تفسير النصوص وإيضاحها مع التعليل والتحليل لبيان الحجة والدليل.
وفي منهج الطبري (ت: 310هـ) قدوة للمؤرِّخ في هذا المجال إذ قال: «وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه، دون ما أدرك بحجج العقول، واستنبط بفكر النفوس، إلا اليسير القليل منه... إلخ»(9).
وذكر عبدالله الأنصاري كلامًا قيمًا حول ذلك، حيث قال: «ومن أهم ما يجب على من يكتب في هذا الفن ألا ينقل كل ما يقف عليه من الأخبار، دون فحصها وعرضها على صحيح المنقول وحكيم المعقول؛ فليس كل مكتوب في كتاب، أو متداوَل بين الناس، يصح إثباته والاحتجاج به، قبل أن تُعْلَم حَاله وحال من قاله،... ولذلك وقع لبعض معاصرينا أخطاء فادحة فيما كتبوه من الأخبار التي ينقلونها عَمَّن لا يصح الاحتجاج به، ممَّن يكتب ما لا عِلم له بِه، وما لم يروه عن أحد سوى خاصة فكره واستنباطه، وإنما أدَّاهم إلى ذلك الذي نقلوه واحتجوا به الميلُ العَاطِفيُّ، ومراعاة أهواء آخرين ممن يرون رأيهم، ولا يرغبون في مخالفتهم، فهدموا كل الشروط والقيود المتقدمة عن علماء الأمة»، ثم ذكر ما نبّه عليه ابن خلدون على مثل هذا الصنف من كُتَّاب التَّاريخ، في معرِض حديثه عن فضل علم التاريخ، وضرب لهم أمثلة ممن كان في زمنه وقبله(10).
وقد وصف ابن خلدون في مستهل «مقدمته» جُموع المؤرِّخين وكيف تعاملوا مع الأخبار في عصره والذين سبقوه، ومما قاله «في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع بما يعرض للمؤرِّخين من المغالط والأوهام وذكر شيء من أسبابه»: «اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفائدة، شريف الغاية؛ إذ هو يُوقِفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سِيَرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا؛ فهو محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبُّت يفضيان بصاحبهما إلى الحق، ويُنَكِّبان به عن المزلَّات والمغالط؛ لأن الأخبار إذا اعتُمِد فيها مجرَّد النَّقْل، ولم تُحَكَّم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قِيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يُؤْمَن فيها من العثور، ومَزَلَّة القَدَم، والحَيْد عن جادة الصدق، وكثيرًا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في حكايات الوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل، غثًّا أو سمينًا، لم يَعْرِضُوها على أُصُولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلّوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغَلَط»(11).
وعُمومًا؛ فإن علم التاريخ لا يمكن أن يكون علمًا إذا كان عرضة للأهواء والنوازع، وهناك فرق بين التاريخ العلمي الذي يقبل بالوثائق والبراهين، وبين التاريخ الأيديولوجي الذي يخضع للأهواء والأوهام، وهناك فرق بين المؤرخ الذي يكتب التاريخ من مصادره الصحيحة، وبين المتوهِّم الذي يتشبث بما يؤيد وجهة نظره وهواه.
وأهم ما يُحتاج فيه إلى الكتابة والتحقيق -في أي من العلوم- اجتماع الفضائل الإنسانية التي هي الأمهات الأربع وهي: العلم، والشَّجاعة، والعِفَّة، والعدل، وما عدا هذه فهي فروع عنها وتُرَد إليها، فالعلم فضيلة النفس الناطقة، والشجاعة فضيلة النفس الغضبيّة، والعفة فضيلة النفس الشهوانية، والعدل فضيلة التقسيط وهو عام في الجميع(12)، ولا بد من تنزيه النفس عن العوارض الْمُردية لأكثر الخَلْق، والأسباب الْمُعْمِية لصاحبها عن الحق، وهي كالعادة المألوفة، والتعصُّب، والتظافر، واتباع الهوى، والتغالب بالرئاسة، وأشباه ذلك(13).
والالتزام بالموضوعية والتجرد من الذاتية هو أساس العلوم جميعًا، وأساس الوصول إلى الحقيقة وعلى رأسها الحقيقة التاريخية.
وكل باحث في أي علم وتخصص لا بد من أن يلتزم بالضوابط العلمية؛ كالتجرد للحق، والالتزام بالأمانة العلمية، وعدم تحميل الأقوال تفسيرات وتأويلات لا تحتملها؛ فبيان النّص في اكتماله ووضوحه، وليس في اجتزائه بما يؤيد وجهة النظر بتمحّل أو سوء فهم، حتى لا يُتأوّل عن معناه الحقيقي، ويخرج عن سياقه الصحيح ومقصده العلمي.
وأيضًا- على الباحث أن يبتعد عن التعصب والتحيز للآراء أو التحزّب بأنواعه، ويعتمد على النصوص والأدلة قبل النظر إلى الأشخاص واتجاهاتهم؛ للوصول إلى الحقيقة عندما تتضارب الروايات والأقوال، وتختلف الآراء والأفكار؛ فالحق لا يُعرف إلا بالدليل.
أمَّا التعصب للفكر فلا يجلب إلا الردود الاستفزازية غير العلمية، والهوى يُعمي ويصم، والابتعاد عن أصل الخلاف والدخول في غيره تحييد عن الموضوعية؛ لأن الغرض من البحث والرّد في مسألة ما هو الوصول إلى الحقيقة؛ فمتى ما ظهرت واستبانت فالجدال فيها معاندة ومكابرة، وآفة الباحث أن يظن ظهور الحق على يد مخالفيه هزيمة له، ولو أن الرجوع إليه نُبل وفضل، ومن علامات الباحث والناقد والمناظر والمحاور عدم الاستخفاف والسُّخرية؛ وألا يحتج لنفسه ويتغافل عن حجة الآخرين ولا يُناقشها؛ فهذا ليس من آداب البحث والنقد والمناظرة والمحاورة، ومن أقبح ما عابه العلماء من أهل البحث والعلم والفضل.
والردّ العلمي ليس تجاسرًا على الكتابة، والنقد الأدبي لا يُعد تطاولًا إلى النقد؛ وهو بأنواعه مجالٌ أدبي واسعٌ يعرفهُ أُولِي العَزْمِ والنُّهَى، وإنما الهدف الوصول إلى الحقائق لإصلاح إنتاجنا الثقافي وتحريك ركوده، وإيجاد روافد جديدة بالتعمُّق في استقراء النصوص وتحليلها؛ أمَّا الحشو ونقل النصوص على عجل والحكم عليها دون فهم وغربلة فهو تقميش يحتاج إلى إعادة نظر.
وهنا فائدة يحسُن ذِكْرُها وهي أن كل صاحب قول يُرد عليه إلا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فأي كاتب -لا محالة- قد عَلِم أشياء وفاتته أشياء أخرى قد يُدْركها غيره، ولا بد من أن يقع الخطأ قبل التصحيح، والتّعثُّر قبل الثَّبات، وليس هناك كمال إلا من نقص، فمن الذي يأمن الخطأ والزلل، والنقص والخلل، وهذا من أعظم العبر، ودليل على استيلائه على جملة البشر مع طبيعة الاختلاف فيهم؛ ولكن قد ربح من أحسن الظن وابتعد عن كل طرح مُتعالٍ؛ لأنه ممجوج في كل شيء وما أسهل الرّد عليه، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}.
وأُذكّر بما قاله ابن قتيبة الدينوري (ت: 276هـ): «على أن المنفرد بفنٍّ من الفنون لا يُعابُ بالزّلل في غيره، وليس على الْمُحدِّث عيبٌ أن يَزلّ في الإعراب، ولا على الفقيه أن يَزلّ في الشعر، وإنما يجب على كُلّ ذي عِلْمٍ أن يُتْقن فَنَّه إذا احتاج الناس إليه فيه، وانعقدت له الرئاسة به، وقد يجتمع للواحد علوم كثيرة، والله يُؤتي الفضل من يشاء»(14).
الهوامش
(1) بحوث تاريخية في التاريخ والحضارة الإسلامية، لمحمود خلف: (ص7) بتصرف.
(2) منهج البحث التاريخي، لحسين عثمان: (ص20-21) بتصرف.
(3) يُنظر: مقدمة ابن خلدون، (1-13).
(4) طبقات الشافعية، لابن السبكي: (2-22).
(5) هو قاضي القضاة الإمام تقي الدين أبو الحسن علي بن عبدالكافي السُّبْكي الكبير، ولد بسبك بمصر سنة (683هـ)، علّامة حافظ له مصنّفات كثيرة، توفي سنة (756هـ). يُنظر: فتاوى السبكي، لتقي الدين السبكي: (1-3-6).
(6) طبقات الشافعية، لابن السبكي: (2-23).
(7) يُنظر: الوافي بالوفيات، للصفدي: (1-56).
(8) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ، للسخاوي، (ص132).
(9) تاريخ الطبري، لابن جرير الطبري: (1-8).
(10) يُنظر: الأوفى المختار في تاريخ بني إنفا الأنصار، لعبدالله بن محمد بن مهدي الأنصاري، (ص16-19).
(11) يُنظر: مقدمة ابن خلدون، (1-6-11)، (1-13-14)؛ الأوفى المختار، للأنصاري، (ص19-20).
(12) يُنظر: إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد، لابن الأكفاني الأنصاري، (ص94).
(13) يُنظر: الآثار الباقية عن القرون الخالية، للبيروني، (ص5).
(14) تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة الدينوري، (ص77).