الحمد لله رب العالمين الذي كتب الموت والفناء على كل شيء؛ فلا يبقى إلا وجهه سبحانه، فهو الحي الدائم القيوم الذي لا يموت: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ،وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ)، وبعد:
ففي ظهيرة يوم السبت الموافق الخامس من شعبان 1444هـ انتقلت روح أخي الأكبر، وحبيبي وصديقي، وأنيسي، وقطعة من قلبي وروحي «محمد بن إبراهيم الخلف» إلى بارئها؛ فرحمه الله، وجعل الجنة مثواه، وجمعه بوالدي ووالدته وأحبابه عنده في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأحسن لنا العزاء ولبنيه وزوجه وجميع آله.
لَعَمْرِي لَقَدْ غَالَ الرّدَى مَنْ أُحِبه
وَكانَ بودّي أنْ أموتَ وَيسلما
وَأيُّ حياة ٍبعد فقدِ محمّدٍ
كَمَا يفْقِدُ الْمَرْءُ الزُّلاَلَ عَلَى الظّمَا
كم كان أخي يحبني وأحبه، ويسأل عني وأسأل عنه، ويفتقدني وأفتقده، فكلانا يرى نفسه في الآخر، وقد جمعتني وإياه مجالس وأسفار وحكايات؛ فكان لا يملّ مني ولا أملّ منهُ، وأشتاق إليه ويشتاق إليّ، فلم نكن لبعضنا مجرد أخوين لأب، بل روحين في جسد واحد، فاللهم أحسن عزائي فيه، وإن فراق الأخ لمثل تهدم ركن وكسر لا يكاد أن ينجبر، وليس له بديل، أو منه عوض.
ولد -رحمه الله- مصاباً بما يسمى (شلل الأطفال)، ولكن ذلك لم يمنعه ويقعده عن مجالدة الحياة، بل مضى قوي النفس يغالب متاعبها، فأكرمه الله بالدراسة في مدارس تحفيظ القرآن الكريم حتى وعاه قلبه، ودَرّسهُ للطلاب في المرحلة الابتدائية.
وبعد نصف قرن من عمره أُصيبَ بالعمى فكف بصره فصبر وصابر، ولم يحزن ولم يشتكِ، بل زاد إقباله على مباهج الحياة ومكارم الأخلاق، ومؤانسة والدته وأهله وضيوفه، وزاد ولَعهُ بالكرم فكم كان يُطربهُ أن ُيقري الضيوف ويبالغ في إكرامهم، ويقسم على القريبين منه أن يبيتوا عنده الليالي ذوات العدد، وحتى بعد انتقاله إلى الرياض وسكناه إلى جوارنا؛ كانت عبارته التي لا تفارقه حين زيارته (تغدوا معنا) (العشا عندنا).
ألم ترَ أن الدهر يوم وليلةٍ
يكرَّان من سبتٍ عليك إلى سبتِ
فقل لجديدِ العيشِ لا بد من بِلى
وقل لاجتماع الشمل لا بد من شتّ
وإنَّ من أعجب ما رأيته في لطف الله به وإكرامه له -على ضعفه وما أصيب به من شلل الأطفال وكف البصر- سعة رزقه له، فسبحان الرزاق ذو القوة المتين، الذي يرزق الطير تذهب خماصاً وتعود بطاناً؛ فقد رزقه الله وظيفة شريفة من أسمى الوظائف وأجلها قدراً، هي معلم القرآن الكريم، وأكرمه بزوجة حسيبة صالحة من بيت كريم هي»شريفة بنت محمد الموسى» من أهالي روضة سدير، ووالدها من أطيب الرجال وأحاسنهم أخلاقاً ممن إذا ذُكروا ذُكر الله.
ثم وهبه الله من هذه الزوجة المباركة ابنة من أطيب البنات وأحسنهن حديثاً وأكثرهن حياءً، وخمسة أبناء ما عرفناهم إلا صالحين بارين، وهو على ضعف جسده الذي لا يكاد يحمله، يمرُّ ضحوة كل يوم على بيوت أخواته اللواتي يسكن بجواره، ويسلم عليهن ويمازحهن، ويلاعب أطفالهن؛ فيا ليتَ القساة قاطعي الأرحام رأوا بكاءهن عليه بعد موته بكاء الثكالى.
لو كنت أعلم أن البين أدركنا
لكنت متعت منك السمع والبصرا
لكنه قدر يختارنا تبعاً
ولا سبيل لنا أن ندفع القدرا
ما غيب الموت شيئاً من مآثركم
في كل ركن أرى من فضلكم أثرا
فما أعظم رحمة الله وتدبيره وفضله وجوده على عباده، وحقاً إن أعظم ما نجده في أخي على ضعفه، هو لطف المولى سبحانه ورحمته ورزقه وجوده وحفظه وكرمه وإحسانه، وخاب وخسر من حُرم من فضل ربه حتى يئس منه بسوء فيه، وتعالى الله عن الظلم.
وإن الخير الذي عاش فيه أخي محمد ليعود بفضل الله وكرمه إلى بركة القرآن، وأثر تعليم الناس الخير ونشره بينهم، وسلامة القلب من الغل وغش المسلمين. ثمّ منّ الله عليه بزواج طيب الأثر والثمر، وعاش حياة تتقلب بين صنوف المكارم والعبادات صلة وصلاة، كرماً ولطفاً، حسن خلق وجوار، والله يتقبل منه، ويضاعف له، ويجعله من القدوات التي بمثلها يهتدى.
اللهم أغفر لأبي إبراهيم وأرحمه، وعافه وأعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، وأغسله بالماء والثلج والبرد ونقهِ من الذنوب كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وجازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغُفراناً. اللهم أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وأدخله الجنة وقه عذاب النار.
اللهم أرفع درجته في المهديين، وألحقهُ بعبادكَ وأوليائك المتقين، وأصلح في عقبه في الغابرين، وأجمعنا به في جناتك جنات النعيم، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، وأغفر لنا وله، وأجعله في مثواه من السعداء، وعند قيامه للنشور من الآمنين، وحين تطاير الصحف ممن يأخذها باليمين، وأجعله على الصراط من أسرع العابرين، وإلى أعالي الجنان من الداخلين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
** **
- كتبه/ عبدالله بن إبراهيم بن محمد الخلف