د.عبدالله بن موسى الطاير
يستغرب البعض باستنكار عندما يبلغ علمهم أن السعودية أقدم نظام سياسي متصل في الشرق الأوسط. حجر أساس الدولة السعودية الثالثة وضع في عام 1902م، وحينئذ لم تكن الجمهورية التركية (1923م) موجودة، ولا الجمهورية الإسلامية في إيران (1979م)، ولا جمهورية مصر العربية (1952م)، ولا الجمهورية العراقية (1958م)، ولا الجمهورية العربية السورية (1946م)، ولن استطرد في بقية الدول في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فجميعها جاءت بعد قيام المملكة.
برهنت التجربة السعودية في الحكم على أن الملكية نظام سياسي فاعل وناجح، وهو يحقق غاية الحكم الرشيد التي تنشدها جميع الأنظمة الملكية أو الجمهورية الديموقراطية. مشكلة الملكية كنظام حكم أنها اكتسبت سمعة سيئة بسبب إقطاعيات أوروبا، وتجربة التزاوج بين السلطة والكنيسة التي استعبدت الناس وحرمتهم أبسط حقوقهم، ومن أجل بقائها أوقدت الحروب الطائفية والنزعات القومية والعنصرية فكانت الثورة الفرنسية بمثابة إعلان وفاة الأنظمة الملكية في أوروبا. النظم الملكية على الرغم من حملة الشيطنة والتحريض بقيت، بل وتفوق بعضها على النظام الجمهورية في جوانب كثيرة تمس حياة المواطن؛ في أوروبا حالياً أنظمة ملكية في بريطانيا، وأندورا، وبلجيكا، والدنمارك، وليختنشتاين، ولكسمبورغ، وموناكو، وهولندا، والنرويج، والسويد.
بفعل الأنظمة العربية القومية التقدمية الاشتراكية شوّهت سمعة الملكيات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأصبحت رديفة للرجعية والتخلّف لتقوم على أنقاضها جمهوريات تحولت مع الوقت إلى ملكيات في توارث الحكم مستفيدة من ديمومة السلطة دون تحقيق مقتضيات الحكم الرشيد الذي تنشده الملكية، وليس تقليلاً من رشاد الديموقراطيات في الدول المتقدمة، كابد دول الشرق الأوسط الآبقة على الملكية مرارات التقلبات والاضطرابات السياسية، وعاقرت شظف العيش في ظل غياب التنمية رغم الثروات الضخمة.
البريطانيون اختبروا الحكم الجمهوري لمدة 11 عاماً، كانت سنوات عجاف، إذ أدت النجاحات العسكرية لكرومويل إلى إجبار الملك تشارلز الأول على اللجوء إلى الخارج على الرغم من قبوله وتتويجه ملكًا في اسكتلندا، وبالتالي كانت إنجلترا من عام 1649 إلى عام 1660م جمهورية في فترة عُرفت باسم «بين العهود»، خضعت فيها البلاد لسلسلة من التجارب السياسية، حيث حاول الانقلابيون إعادة تعريف، تأسيس عقد اجتماعي بدون النظام الملكي. شاب الاضطراب علاقة كرومويل بالبرلمان طوال فترة الانقلاب، مع وجود توترات حول طبيعة الدستور ومسألة السيادة والسيطرة على القوات المسلحة والنقاش حول التسامح الديني، مما أدى إلى مزيد من الخلافات مع مجلس العموم. بعد وفاة كرومويل عام 1658، وفشل ابنه على مستوى الجيش وعلى مستوى مجلس العموم، دعا الجيش تشارلز الثاني للعودة ببريطانيا إلى الحكم الملكي عام 1660 .
المحاولات التي اتخذت عبر التاريخ لصبغ المجتمع البشري بلون واحد فشلت لأنها مخالفة لفطرة التنوع، وبذلك فإن اعتبار الديمقراطية الغربية هي الطريق الوحيد إلى الحكم الرشيد ليس سلوكاً رشيداً، فالجمهورية الديموقراطية التي نجحت في أمريكا وفرنسا وكندا ولفيف من الدول الليبرو-ديموقراطية نجحت بشروطها المتمثلة في علمانية الدولة، وليبراليتها وسيطرة الرأسمالية والفردانية، وقد حققت تلك الشروط بتضحيات جسام وعمل فكري وتعليمي وتربوي استمر لعشرات السنين إن لم يكن مئاتها. على الضفة المقابلة فشلت ما سميت بالجمهوريات الديموقراطية في الوطن العربي فشلاً ذريعاً لأنها اعتسفت رقاب المجتمعات لنظام سياسي غريب على ثقافتها دون أن تبذل الجهود المستحقة لترويض الثقافة السائدة.
لدارس التاريخ قد تكون فترة ما بين العهود في التجربة الإنجليزية ملهمة لبعض المجتمعات التي دوختها التجارب السياسية منذ انقلبت على الملكية، وليس عيباً طال الزمن أو قصر أن تراجع حساباتها بعد انكشاف غشاوة التضليل التي أدت للانقلاب على أنظمتها الملكية المستقرة. ويقيني أن العالم اليوم يشهد تكريساً للتعددية في أنظمة الحكم، فالصين وروسيا على سبيل المثال جمهوريات بنكهة ملكية من حيث استقرار السلطة وتواصل البناء والتنمية، وهو نمط من الحكم أثبت جدارته في الصين عندما رفع في سنوات قليلة أكثر من 800 مليون إنسان من تحت خط الفقر لتتبوأ الصين في أربعة عقود مرتبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، متقدمة على عدد كبير من الدول الديموقراطية الكبرى.
اقتبس في هذا السياق ما قاله سمو ولي العهد في لقائه مع الرئيس بايدن من أنه «من المهم معرفة أن لكل دولة قيماً مختلفة ويجب احترامها. ولو افترضنا أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تتعامل إلا مع الدول التي تشاركها القيم والمبادئ 100 % فلن يبقى للولايات المتحدة من دول تتعامل معها سوى الناتو، ولذا يجب علينا التعايش فيما بيننا على الرغم من الاختلافات التي نعيشها». وقد آن للمجتمعات أن تمارس خياراتها في اختيار أنظمة الحكم المناسبة لها دون ترهيب الديموقراطيات الغربية لها، وربما نرى والحالة هذه عودة المجتمعات المنكوبة بأنظمة حكمها الجمهورية إلى الملكيات.