محمد سليمان العنقري
صدور البيان الثلاثي السعودي الصيني الإيراني والذي تضمن الاتفاق على عودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران وتفعيل الاتفاقات الموقعة سابقاً بين الدولتين بمبادرة من الصين، تلقتها الأوساط الدولية بترحيب واسع، فالمملكة دولة تدعو للسلم وحل الخلافات بالحوار، وهو ما عبَّر عنه وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان، حيث صرَّح عقب إعلان البيان بأنه «يأتي استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة وإيران، انطلاقاً من رؤية المملكة القائمة على تفضيل الحلول السياسية والحوار، وحرصها على تكريس ذلك في المنطقة. يجمع دول المنطقة مصير واحد، وقواسم مشتركة، تجعل من الضرورة أن نتشارك سوياً لبناء أنموذجٍ للازدهار والاستقرار لتنعم به شعوبنا». فالاتفاق يتضمن الموافقة على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدة أقصاها شهران، ويتضمن تأكيدهما على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
ولقد انصبت التحليلات للخبر المهم في منطقة الشرق الأوسط حول انعكاساته وماذا يتضمن من بنود ولماذا الصين هي الوسيط الذي استطاع أن ينجح بعودة العلاقات بين الرياض وطهران التي انقطعت لسنوات عدة بسبب سياسات إيران العدائية ضد المملكة والعديد من الدول العربية وتدخلها بشؤونها الداخلية ودعم جماعات إرهابية زعزعت استقرار دول مثل اليمن ولبنان، إلا أن ما بعد هذا الاتفاق ليس كما قبله في حال التزمت إيران تحديداً بتنفيذ ما عليها، فالكرة أصبحت بملعبها، فالقراءة لهذا الاتفاق تأخذ أبعادًا رئيسة عدة، أولها أن الضامن للاتفاق دولة عظمى عضو دائم في مجلس الأمن وهي الصين التي تربطها علاقات قوية بالدولتين لكن حجم مصالحها مع المملكة أكبر بكثير، إذ يصل التبادل التجاري إلى ما يفوق 80 مليار دولار، بينما حجم التجارة مع إيران يصل إلى 14 مليار دولار، وهو رقم محدود قياساً بمصالحها وعلاقتها مع السعودية ودول الخليج التي يبلغ مجموع التجارة معها 200 مليار دولار، بالمقابل فإن إيران تعد الصين أهم حليف اقتصادي لها وبينهم اتفاقية تتيح لبكين ضخ 400 مليار دولار في 25 سنة باستثمارات متعددة، أي أنها المنقذ الحقيقي لاقتصاد إيران، وبذلك فإنها لا تستطيع الإخلال بهذا الاتفاق لأن ذلك سيعني ضرراً كبيراً بعلاقتها مع الصين والتي تنتقل لمرحلة مهمة في دورها الدولي لبعد سياسي وليس اقتصادي فقط، أما الحليف الروسي سياسياً لطهران فهو مشغول بحربه مع أوكرانيا وتربطه علاقة وثيقة بالسعودية ولن يضحي بمصالحه معها من أجل إيران، ولذلك يأتي البعد الآخر إيران التي لم تتحرك وتسعى لهذا الاتفاق إلا لأنها أدركت خطأها بمعاداة السعودية وكذلك نهجها السياسي بالمنطقة الذي سبب لها ضعفاً اقتصادياً وعزلة عن محيطها الجغرافي مع أكبر اقتصادات المنطقة، فالعقوبات المفروضة عليها بسبب برنامجها النووي ومشاريعها التوسعية التي أضرت باستقرار دول عربية كلفها فاتورة اقتصادية ضخمة جداً وأثراً سلبياً على مستوى المعيشة لشعبها، فهي في موقف تحتاج فيه لنهج سياسي مغاير لواقعها اليوم يركز على التنمية وحسن الجوار، فلديها إمكانات اقتصادية ضخمة لم تستغل لعدم وجود توجه واقعي للتنمية لديها، فتطوير اقتصادها لن يتم إلا بعلاقات جيدة مع المحيط الجغرافي لإيران وتحديداً السعودية أكبر اقتصاد شرق أوسطي بناتج إجمالي يفوق تريليون دولار وعضو مجموعة العشرين أكبر تجمع اقتصادي دولي.
أما البُعد الثالث فهو السعودية التي تدعم الدبلوماسية والحوار لبناء علاقات وثيقة بين الدول وتقدم للعالم نموذجاً مميزاً بالتنمية بعد إطلاق رؤية 2030، فاستقرار المنطقة ونبذ الخلافات ومعالجتها دبلوماسياً والتوصل لتعاون إقليمي اقتصادي نهج سعودي ثابت ويُعدّ بكل تأكيد داعماً مهماً لمزيد من النمو الاقتصادي بالمملكة، فالرؤية تستهدف جذب استثمارات ضخمة تقارب 7 تريليونات دولار خلال هذا العقد، يحسب ما أُعلن عبر برامج عدة منها «شريك»، وكذلك صندوق الاستثمارات العامة والإنفاق العام والاستثمار الأجنبي والمحلي من القطاع الخاص، كما أن في الرؤية أهداف عديدة لتطوير قطاعات اقتصادية مثل الصناعات البتروكيماوية والتعدينية وكذلك قطاع الخدمات اللوجستية والنقل وكذلك السياحة والترفيه وغيرها، إضافة لمشاريع عملاقة إستراتيجية مثل الجسر البري ومدينة نيوم التي ستكون «أيقونة عالمية فريدة» بنموذجها العصري ونوعية الاستثمارات فيها، فحجم الاستثمارات الضخم والتطور الهائل الذي تشهده المملكة في الأصعدة كافة سيكون للاستقرار والسلم بالمنطقة دور كبير بتعزيزه، فالمملكة تتحرك من منطق قوة وتأثير دولي واسع وقد انتصرت سياستها وتوجهاتها نحو شرق أوسط واعد، وقد قال ولي العهد الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله - «أن أوروبا الجديدة هي الشرق الأوسط»، وهو الذي يقود رؤية شاملة لن تغير الاقتصاد السعودي فقط بل المنطقة بكاملها، فما يجري في المملكة من نهضة شاملة أصبح ملهماً لكل دول الشرق الأوسط نظراً لحجم اقتصاد المملكة الضخم وثقلها ودورها السياسي والتنموي الكبير في المنطقة والعالم، فلذلك تُعَدُّ المملكة أكبر الرابحين ليس من هذا الاتفاق فقط بل من نهجها السياسي والاقتصادي الذي اكسبها ثقة العالم، فوصول المملكة لأهداف رؤية 2030 سيضعها بمكانة اقتصادية رائدة دولياً وستكون هي «القطب الاقتصادي الأول» بالشرق الأوسط، لأنها سبقت الجميع بنظرتها وعملها لصنع مستقبل مشرق يتماشى مع القرن الواحد والعشرين والتحولات الكبرى فيه نحو التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي. ويبقى البُعد الرابع وهو الدول العربية التي تعاني من عدم الاستقرار بسبب تدخلات إيران فيها المزعزعة لاستقرارها، فإن هذا الاتفاق لابد من أن يغير من واقعها والوصول لحلول سياسية داخلية فيها وانتقال للبناء والأعمار والتنمية وعودة الاستقرار لها، وهو ما عملت عليه السعودية دائماً بمبادراتها الراميةللحلول السياسية وبتقديمها لمساعدات إنسانية وتمويلها لمشاريع تنموية تخدم تلك الدول.
الشهران القادمان سيشهدان مراحل تنفيذ الاتفاق ومعالم من تفاصيله وستقاس بما يظهر من تغيير بنهج سياسات إيران التي كانت ضارة لها وللمنطقة، وقد تكون قد قامت بمراجعتها للعدول عنها والاتجاه نحو نهج سياسي قائم على حسن الجوار، في الوقت الذي نجحت فيه المملكة بفرض واقعيتها السياسية وتصدير نموذجها التنموي الرائد للمنطقة وهي تحصد المكاسب على الأصعدة كافة بفضل توفيق الله وقيادتها الرشيدة التي أثبتت الأيام أنها كانت الأكثر عمقاً بحكمتها وتوجهاتها التي حققت معها نجاحات كبرى، وتوثيقاً لعلاقات إستراتيجية مع القوى الكبرى كاقة اقتصادياً وسياسياً بالعالم، وأصبح الجميع يتجه لتعزيز وتقوية العلاقات معها لأن نهجها السياسي السلمي والاقتصادي التنموي هو ما يبحث عنه العالم الذي يعيش أدق مراحله صعوبةً على الأصعدة كافة.