مشعل الحارثي
منذ نشر مقالي السابق بهذه الجريدة الذي يحمل عنوان (كبسولة الزمن وتراثنا الخالد) بتاريخ الثلاثاء 8 شعبان 1444هـ حتى أمطرني الكثير من الأصدقاء والمتابعين وزملاء الحرف والكلمة بسيل من التعليقات بين مؤيد ومعارض ومعجب بهذا الاستشراف والإبحار في عالم الخيال فمنهم من قال إنك خرجت بنا من واقعنا ومن همومنا وآلامنا ومشاكلنا في صندوق الدنيا الذي نعيش به وحلقت بنا في عوالم أخرى مجهولة لا نعلم مداها أو مستقرها، وآخرون عدوا ذلك من باب الترف وتضييع الوقت في أمور هامشية لا تتماشى مع حقيقة عالم اليوم وما يحيط به من ظلال كارثية وتحديات ومنغصات.
وأين كانت تلك الآراء والتعليقات إلا أن الهدف من تلك المقالة السابقة وهذه المقالة التي تطالعونها اليوم هو تغيير النظرة للزمن والتمرد على ضيق الأفق وعدم مقاومة التغيير النافع لتحسين متطلبات الحياة، وتقبل التجديد المفيد، والتفكير في مشاكل وتطلعات المستقبل، ومعرفة كيف يفكر الآخر؟ وإمعان النظر في كيف تحملهم روح الأمل والتفاؤل لكي يعيشوا مرة أخرى وحياة ثانية في أذهان من سيأتي بعدهم بمئات السنين؟ بعملهم الجاد ومنجزاتهم الإنسانية وإنتاجهم الفكري وإبداعاتهم العلمية والأدبية والفنية، وتوظيف الخيال العلمي لرسم مستقبل مختلف، فضلاً عن إعطاء مساحة واسعة للتفكير لاتخاذ القرارات المناسبة والاهتمام بالوقت والأهداف طويلة الأجل.
واستكمالاً لما سبق طرحه من تلك الأفكار وعلى نفس النسق من ذلك التحليق المستقبلي فقد أدهشني أيضاً مشروع الفنانة التشكيلية الاسكتلندية (كاتي باترسون) المتميزة بأفكارها ومشاريعها المتعددة ومنها كتابها المهم (الاتصالات من الأرض وإلى الأرض عن طريق القمر) والذي يصعب على القارئ العادي استيعابه لاعتماده على حسابات رياضية معقدة ليأتي مشروعها الطويل الأمد (مكتبة المستقبل) بدعم من عدد من الشركات والمؤسسات الثقافية والقائم على عمل (100) مؤلف من الأحياء أو ربما من الذين لم يولدوا بعد، وكل من يقع عليه الاختيار ليؤلف كتاباً يبقى مخطوطاً لا يطلع عليه أحد إلا شخص واحد فقط موثوق به جداً، وتظل مخطوطات هذه الكتب في خزائن محمية ملحقة بالمكتبة العامة بـ(جورفيكا بأوسلو)، ولا يعرف أحد ما بداخلها ولن تفتح إلا عام 2114م موعد طباعة هذه الكتب.
واحترازاً وتحسباً بأنه ربما يكون الورق في عداد المنقرضات في ذلك الوقت فقد وضع في خطة المشروع زراعة ألف شجرة من أشجار الورق، وقد بدأت صاحبة الفكرة والمشروع وفريق عملها المشارك عام 2104م في زراعة تلك الشتلات في غابة بالنرويج سميت بغابة مكتبة المستقبل، ومن دقة تفاصيل المشروع فقد اعتمد الاحتفاظ بمكنة طباعة لتطبع الكتب في ذلك الوقت فيما لو انقرضت المطابع هي الأخرى، كما أن لجنة الاختيار والإشراف والمتابعة للمشروع والمؤلفة من عدد من الناشرين والمؤلفين والخبراء في المسائل الثقافية والأدبية وبعض الاختصاصيين في العلوم والغابات وغيرهم، تم الاتفاق على تغيير أعضائها كل عشر سنوات لضمان استمرار العمل حتى نهاية المدة المقررة، وأنيطت بهذه اللجنة إضافة لمهمة اختيار مؤلف أو مؤلفة كل عام لكتابة المخطوط على مدى المئة عام القادمة الإشراف أيضاً على حفظ المخطوط وتوفير العناية الكاملة للألف شجرة ومتابعة نموها والحفاظ عليها من أيدي العابثين.
وقد تفاعل مع الفكرة والمشروع منذ إطلاقه حتى الآن عدد من الكتاب العالميين المشهورين ومنهم الروائية الكندية العالمية (مارغريب أتوود)، والكاتب البريطاني (ديفيد ميتشيل)، والشاعر والروائي الايسلندي (سيجون)، والكاتبة التركية (إليف شافاق) والكاتبة (هان كنج) من كوريا الجنوبية وقدموا أعمالهم الإبداعية للجنة.
وقد تقرر أنه ضمن مراسم افتتاح هذه المكتبة وطباعة ما بها من كتب وفي حالة وفاة الكاتب المشارك في هذا المشروع وهذا أمر وارد لطول المدة فسوف تعطى المجموعة كاملة لابنه أو حفيده أو حسب وصية الكاتب المشارك.
وبعد أن أمعنت في هذا المشروع وتفاصيله الدقيقة كثيراً والتي لا يتسع المجال لسردها في هذه المساحة المحدودة وجدتني مجبراً على العودة من التحليق في الآفاق الواسعة لأرض الواقع وتخطي عامل الزمن وتملكتني الحيرة والأسى في نفس الوقت وأنا أطالع ما حل بمكتباتنا العامة وطوال السنوات الماضية من هجران وإهمال وعدم اهتمام ثم إغلاق ثم غياب الرؤى والأفكار التطويرية لتطويرها وتحسين أوضاعها برؤية عصرية جاذبة للمستفيدين وللأجيال على مر الزمان، وبعد أن أناخ هذا الحمل الجسيم وعهد به لوزارة الثقافة التي ما زلنا ننتظر منها تنفيذ الكثير والكثير لإعادة الروح من جديد لهذه المكتبات لآن عشاق الكتاب وطلابنا في الكليات والجامعات والباحثين والباحثات في المراكز العلمية وعشاق الفكر والأدب والثقافة لازالوا ينتظرون منها خروج العديد من الخطط والبرامج والمشاريع الثقافية التي تعيد للكتاب مكانته، ولآن عصر الكتاب لا يزال حياً وأنيساً للمثقف مهما تعددت وسائل الاتصال والتقنيات الحديثة ولآن المطابع ودور النشر لازالت تعمل وتدفع بإنتاجها للمكتبات والأسواق طوال العام.