تمهيد
تقلّدت المرأة العربيّة-ولاتزال- مناصب علميّة وثقافيّة متعدّدة منذ القرن العشرين إلى غاية اليوم. وسنكتفي بهذا الحيز في الزمن والموضوع لأنّه لا يسعنا في هذا الإطار ذكر تاريخ المرأة في الإسلام ومسألة القيادة السياسية في عديد المحطّات بمختلف أنحاء البلدان العربيّة من المشرق إلى المغرب.
وتتقلّد المرأة العربية هذه المناصب العلمية والثقافية رغم ما يعترضها من محاولات إقصاء في عدّة مجتمعات عربية جرّاء الخلفيّات الفكريّة المرتدية ثوب الدّين بحجّة إلزامها بالاكتفاء بوظيفتها البيولوجيّة من خلال تولّيها مهمّة الإنجاب وتربية الأطفال والاعتناء بشؤون البيت وحرمانها من حقّها كإنسان في التّعليم (كما في زمن غير بعيد بعدة أقطار عربية).
غير أنّنا نعلم جميعاً أنّ ديننا الإسلاميّ كرّم المرأة وأعلى من شأنها، الله عادل، وفي التّشريع الإسلاميّ تجلّت مظاهر العدل بين الجنسين ولم يقع التّفريق في العمل بين الرّجل والمرأة إذ قال الله تعالى:»مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (النّحل: 97)، لكنّ القراءات الفكريّة للقرآن الكريم لبعض الباحثين حاولت تفضيل الرّجل على المرأة وبالتالي كبت مشاعرها وأدلجة فكرها وإقصائها من حقّها في ممارسة متعة إعمال العقل ونيل العلم رغم أنّها هي الّتي كانت وراء إعطاء الحياة لرجال اشتد عودهم ليكون بينهم من قرّر منعها من إثبات وجودها الفكري على هذه الأرض والبعض الآخر من الممتنيّن الّذين ساندوها لكسب وافتكاك حقّها حتّى تكون شريكة للرجل على هذه الأرض في مختلف مظاهر الحياة. فأثبتت بعد صراع مع الأفكار الرّجعيّة للوجود أنّها قادرة على النّجاح في مختلف الميادين العلميّة والفكريّة، ومن بين هذه المجالات مجال الموسيقى والعلوم الموسيقيّة.
1 - لمحة عن نشاط المرأة العربية في مجال الموسيقى
لازمت الموسيقى المرأة في مختلف انتماءاتها الثّقافيّة في شتّى مظاهر الحياة اليوميّة، فبالموسيقى تهدهد رضيعها في المهد، وبها تستأنس في قضاء حاجيات بيتها، وهي الرّفيق إذا ساهمت في أحد الأنشطة الفلاحيّة، وهي وسيلة للتّسلية أثناء الاحتفال بحفلات الزّفاف في مختلف مراحله.
ولو عدنا إلى علاقة المرأة العربيّة بالموسيقى عندما جاء الإسلام نجد أنّ التّاريخ يذكر العديد من النّساء اللّواتي اشتهرن بحسن الغناء وجمال الصّوت سواء في المشرق العربي أو في المغرب وأشهرهنّ نذكر سيرين «الّتي أهداها جرير مقوقس مصر للرّسول صلّى الله عليه وسلّم فأهداها بدوره إلى سيّدنا حسّان بن ثابت وأصبحت عميدة الفنّانين والفنّانات في المدينة المنوّرة».
كما اشتهرت على سبيل الذّكر في العصر الإسلامي الأوّل «جميلة» و»عزّة الميلاء» ثمّ لاحقاً في العصر الأموي «سلاّمة» و»حبابة»، وفي العصر العبّاسي وهي الفترة الزّمنيّة التي عرفت فيها الموسيقى العربيّة أوج ازدهارها وتطوّرها فقد دوّن التّاريخ الموسيقيّة «علية» وهي شقيقة الخليفة هارون الرّشيد والخليفة الفنّان إبراهيم بن المهدي. كما اشتهرت بالأندلس مجموعة من المغنّيات مثل «فضل المدينة» و»قمر» و»ولاّدة».
عرفت المرأة خلال هذه الفترات الزّمنيّة بإتقانها وممارستها للغناء وكذلك بعزف بعضهنّ على آلة العود مثل «سلامة» و»حبابة» وأتقنت «عزّة الميلاء» العزف على آلات المزهر والعود فشاركت الرّجل في مجالس الغناء والطّرب وألهمت الشّعراء والملحّنين فتطوّرت الموسيقى العربيّة وبذلك اهتمّ المؤرّخون للحضارة العربيّة بدور المرأة من الفترة الزّمنيّة الّتي عاش فيها أبو الفرج الأصفهاني وما ضمّنه في كتابه الأغاني إلى من جاء بعده من المعاصرين.
لكنّ التّاريخ لم يذكر المرأة المؤرّخة والباحثة ولا حتّى الملحّنة في مجال الفنون والعلوم الموسيقيّة وذلك إلى حدود النّصف الأوّل من القرن العشرين، فجميع ما ذكر ودوّن حول علاقة المرأة بالموسيقى يدلّ على أنّ دورها في هذا المجال كان مقتصراً على الممارسة فقط إمّا غناءً أو عزفاً. فهل هذا يعود إلى صُعوبة المسألة التّنظيريّة والتّلحين بالنسبة لقدرات المرأة الذّهنيّة والعاطفيّة؟ أم أنّ ذلك مرتبط بدوره بالذّهنيّة الرّائجة للمجتمع العربي في علاقته بمجال الفنون والموسيقى التي تمثّل أحد نوافذها الثّقافيّة. أو ربّما وهو المرجّح -بالنسبة لغياب الكتب المتعلّقة بمجال الموسيقى بقلم المرأة العربيّة- بقاء المرأة في البيت وإقصائها من الالتحاق بمقاعد الدّراسة إلى فترة زمنيّة غير بعيدة (منتصف القرن العشرين على الأقل).
2 - أبرز الباحثات العربيات في مجال العلوم الموسيقية
يقترن البحث الموسيقي العربي العلمي ضرورة بالالتحاق بالتّعليم الجامعي في تخصص الموسيقى والعلوم الموسيقيّة، فالخوض في البحث الموسيقي يقتضي تحصيل الباحث لمجموعة من المكتسبات الخاصّة بهذا العلم من إتقان العزف على الآلات الموسيقيّة وحسن الأداء الغنائي والتّمكن من النّظريات ومعرفة المنظومات اللحنية والقدرة على تحليلها وربطها بسياقاتها الإجرائية والثقافية. ويُفترض أن يكون ذلك في صروح الجامعات والمؤسسات العلمية المخصصة لذلك سواء عربيّاً أو أوروبيّاً.
وبالرّجوع إلى الماضي القريب نجد أنّ إدراج الموسيقى ضمن منظومات التّعليم العالي في العالم العربي حديث النّشأة، وتعتبر الجمهوريّة العربيّة المصريّة والبلاد التّونسيّة أولى البلدان العربيّة التي كان لها السّبق في هذا الصّدد.
ومن بين أبرز الأكاديميّات في مجال العلوم الموسيقيّة نذكر :
* الدّكتورة المصريّة «رتيبة الحفني» وهي أوّل امرأة ترأّست دار الأوبرا المصريّة في القاهرة وأثّثت التّلفزيون المصري ببرامج ذات علاقة بمجال الموسيقى. وهي أكثر امرأة عربيّة كتبت في المجال الموسيقي، أوّل مؤلفاتها كان بعنوان «الصّولفيج» الذي صدر بالكويت سنة 1977. وآخرها «محمد القصبجي..الموسيقي العاشق» الذي صدر سنة 2006.
* السّوريّة «إلهام أبو السّعود» التي تتلمذت على يدي الدّكتورة رتيبة الحفني، ومن بين مؤلّفاتها «لغتي مع الأطفال» ولديها العديد من المقالات في مجلّة «الحياة الموسيقيّة» وشاركت في العديد من الملتقيات العلميّة بدول عربيّة كما اشتغلت مقدّمة لبرامج موسيقيّة بالتّفزيون السّوري مثل برنامج «أنت والموسيقى» خلال فترة السّبعينيات.
* الدّكتورة المصريّة «سلوى الشوّان» التي تحصّلت على شهادة الدّكتوراه سنة 1979 من جامعة كولومبيا بالولايات المتّحدة الأمريكيّة. أحدث بحوثها عنوانه «البرتغال وإسبانيا.. ممارسة الموسيقى والتّعبير عن الثّقافة» وهذا المؤلف هو بمشاركة سوزانا مورينو فيرنانديز صدر سنة 2018.
كما قدّمت محاضرات في جامعات عديدة بالولايات المتحدة الأمريكيّة، واشتغلت أستاذاً مساعداً بجامعة نيويورك، ثمّ ترأّست قسم العلوم الموسيقيّة في جامعة برتغاليّة عندما فتح قسم للموسيقى.
* العراقيّة»شهرزاد قاسم حسن»، ومن أهمّ مؤلفاتها نذكر كتابين وهما: «دور الآلات الموسيقيّة في المجتمع التّقليدي في العراق» و»الموسيقى العراقيّة»، كما أنّ لها عدّة بحوث نشرت في شكل مقالات في مجلاّت عربيّة وأوروبيّة.
أمّا خلال هذين العقدين الأخيرين فقد أصبحت المرأة الباحثة والكاتبة في مجال العلوم الموسيقيّة موجودة على السّاحة الثّقافيّة شأنها في ذلك شأن الرّجل، ولولا ضيق الإطار لتحدّثنا عن الموسيقيّات الأكاديميّات في الوقت الراهن، على ذلك سيكون حديثنا عنهنّ في ورقات قادمة إن شاء الله.
** **
د. علياء العربي - أستاذ مساعد للتّعليم العالي جامعة صفاقس - الجمهوريّة التّونسيّة