د.قيس بن محمد المبارك
إنَّ التاريخ لا يسجل من حياة الفرد إلا اللحظات التي يرجع فيها الفرد إلى معنى من معاني فطرته، ليتحقَّق فيها بمعاني إنسانيته، فتصيرُ أعمالُه وجميع تصرُّفاته انعكاساً لهذه الحقيقة العليا التي فطر عليها.
فقد خلَقَ الله الإنسان من تراب، ثمَّ كرَّمه فحَلاَّهُ بعقلٍ يَعي الأشياء التي حوله، فيُدرِكها ثم يتلمَّس ما وراءها، وحَلاَّهُ كذلك بقلبٍ يَفيضُ بجملةٍ من المشاعر الدَّافعة، كالحبِّ، والرَّادِعة كالخوف، والمُمَجِّدة كالإعجاب.
وهكذا جعل اللهُ الإنسانَ مفطورًا على حالٍ من الاستعداد النفسي والتَّهيُّؤ العقلي لِنداء الحق الذي تقبله العقول الصحيحة وتستسيغه النفوس السويَّة، وهو عنوان معالي الأمور التي يحبها الله، وجعلها مَلَكةً مركوزة في الإنسان، روى البيهقيُّ وغيرُه بسندٍ صحيح: (إنَّ اللهَ يحبُّ معاليَ الأَخْلَاق ويبغض سفسافها).
غير أن النفوسَ قد تَنزع إلى قصْدِ الأسهل، كالخمول والكسل، وهو ضياعٌ للوقت بلا ثمرة، فالزمن فراغٌ لا معنى له، فقيمتُه قيمةُ ما فيه من عملٍ نافع، فابن آدم كما قال الحسنُ البصريُّ، إنما هو أيام، (المرءُ حديثٌ بعدَه) فكلما ذهب يومٌ ذهب بعضُه، فإنَّ الكسل آفةٌ لكل صنعة، ولذا قيل: الحركةُ وَلُودٌ والسكونُ عاقِر، قال الحكماء: لا تُنال الراحةُ إلاّ بالتَّعب، ولا تُدرك الدَّعَةُ إلاَّ بالنَّصَب، فالحركةُ والسكون طريقان، ومشارب الناس في الأخذ منهما متفاوتةٌ، ارتفاعاً وانخفاضاً، ولابن آدم مِن كلِّ واحدٍ منهما نصيب، قال تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُم}.
فمَن استثمر زَمَنَهُ فقد خلَّده التاريخ، وقد قيل إنَّ من أسباب خلود المعلقات، أنَّ كلَّ واحدةٍ منها تُشبع فطرةً مما فُطر الإنسان عليها، كمعلقة طرفة بن العبد، خلدها ما فيها من حبِّ الطموح.
وقد وَهَبَ الله أبا عبد الله ديناً متيناً وخلقاً رفيعاً وأدباً جماً، مع فطنة ورجاحة عقل وحصافة رأي، وطموح إلى التَّرقِّي نحو دَرَجات الكمال في المعارف والعلوم، فأدرك بالجدِّ أعلاها وحازها.
ومن دلائل طموحه أنْ هيَّأ لنفسه محيطاً علمياً وأدبياً سامياً، فَصَقَلَ في هذا المحيط مواهبَه وشكِّل فيه شخصيَّته، فأصبحت له ثقافةٌ بعيدةٌ عن الجمود والتحجُّر، فكانت تنبض بالنَّماء والحياة، فكان من ثمارها تأسيس دار الثلوثية الثقافية، والتي هي ملتقى للعديد من الأدباء والمثقفين، وهي سوقٌ لبثِّ العلوم والمعارف.
ومما يتميزُ به أبو عبد الله أن ثقافته واسعةٌ، فقراءاته شملت كثيراً من المعارف والفنون، في العلوم الشرعية، وفي التاريخ والأدب، وفي كتب الرحلات، فكان ينتقي أطايب الكتب، وقد دعاه تعشُّقه للكتاب والمكتبات أنْ يرحل في تطلُّب الكتب، فكثرت رحلاته، فقلَّما يسمع بمكتبة خاصة أو عامة، إلا ويشد الرحل إليها، ورحم الله أبا بكر ابن العربي القائل: (وما كنت أسمع بأحدٍ يُشار إليه بالأصابع، أو تثنى عليه الخناصر، أو تصيخ إلى ذكره الآذان، أو ترفع إلى مَنْظَرَتِهِ الأحداق، إلا رحلت إليه)، فالهمَّةُ سوطٌ سائق، قال أبو بكر يحي بن بَقِيّ القرطبي:
ولِيْ هِممٌ ستقذفُ بِيْ بلاداً
نَأَتْ إمَّا العراق أو الشآما
وقد تكونت عند أبي عبد الله مكتبة ضخمة، وإنَّ العديد من العلماء والمثقفين قد كوَّن لنفسه مكتبة، غير أنَّ البراعة في انتقاء نوادر الكتب لا يملكها إلا القليل، وأبو عبد الله من هؤلاء القليل، فصارت مكتبته خزانةً لنوادر الكتب في العديد من الفنون.
ومن توفيق الله لأبي عبد الله حرصه على أداء زكاة علمه، فكانت له أنشطةٌ متنوعة، ومشاركات تعليمية، واستشارات قانونية، وتوجيهات قضائية، ضمَّن بعضها في كتابه (مقام المحاماة)، وقدم عدداً من البرامج الإذاعية، إضافة إلى مؤلفاته النافعة.
فبمثل أبي عبد الله يتعيَّنُ على شبابنا أنْ يَقتدوا، فلا عُذر لأحدٍ منهم بالغفلة، قال الإمام الشافعي -رحمه الله: (لو عُذِرَ الجاهلُ لأجل جَهْلِهِ لكان الجهلُ خيراً من العلم).
حفظ الله أديبنا الأريب، وزاده توفيقاً وسداداً في تسويق العلم وتحفيز النفوس إليه.
** **
- أستاذ تعليم عال