د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
تذكرني ملازمة الشيخ الدكتور محمد بن عبدالله المشوح للشيخ محمد بن ناصر العبودي بملازمة ابن جني لشيخه الفارسي على اختلاف في الأسباب والأغراض؛ إذ ملازمة المشوح للعبودي ملازمة إعجاب بالشيخ وإدراك مدى حاجة الشيخ إليه؛ وأقصد بهذه الملازمة ما شهدته من جلوس المشوح معه في اللقاءات كاللقاء الذي كان في قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود (1437هـ/ 2015م)، فالدكتور المشوح هو من قدم الشيخ وأدار اللقاء أحسن إدارة وهو لقاء بين العبودي وأساتذة وأستاذات القسم وطلابها وطالباتها، وكانت التعليقات كثيرة والأسئلة غزيرة ولكن الدكتور المشوح بلطفه وحسن تأتيه استطاع أن يدير اللقاء بمهارة واقتدار. وفي كل يوم اثنين في منزل الشيخ العبودي نرى الدكتور المشوح حاضرًا يجلس على كرسيّ في مقابل كرسيّ الشيخ وهو من يتلقى أسئلة الحاضرين مسموعة أو مكتوبة فيجهر بها أمام الشيخ العبودي الذي كان يعاني ضعفا في سمعه ولولا جهود المشوح لتعذر التفاعل في ذلك المجلس؛ إذ له قدرة على رفع صوته في درجة تُسمع الشيخ من دون أن تؤذيه، ورأيته ربما اقترح على الشيخ التحدث عن موضوع رآه مهمًا أو يطرح سؤالًا يقدر أنه مما يهتم به الحاضرون. والدكتور المشوح يبذل جهده هذا خدمة للعلم والمعرفة حتى أراه خليقًا بأن يوصف بأنه سادن للعلم والعلماء.
قال أحمد بن عبدالمحسن العساف في مدونته (مقالات وقراءات) مقالًا عنوانه (محمد المشوح: عبق على عبق!)، جاء فيه «كان أحد عوامل انتشار علم الفقيه والرحالة معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي، إذ طبع جلّ كتبه أو أعاد طباعتها ليعلم الناس أن في ديارنا من يؤلف كتبًا نافعة تتجاوز المئتين في العناوين والمئات في العدد، واستضاف المشوح الشيخ العبودي عبر إذاعة القرآن الكريم في برنامج أظنه كان يذاع كلّ ثلاثاء، يحكي فيه الشيخ رحلاته التي تمثل قوة ناعمة للمملكة تتوافق مع موقعها وقدرها وما ينتظره الناس منها، وكم أتمنى أن يعاد بث هذه الحلقات بصوت الشيخ الجذاب، وأن تتاح مادتها عبر المنصات الصوتية الكثيرة. أيضًا أبرز د.المشوح شيخه العبودي في المحافل العربية، فأقيمت له ندوة كبرى في المغرب بالتعاون بين الثلوثية وجامعة القاضي عياض؛ حتى يقف المغاربة على جهود إخوانهم المشارقة في العلم والتأليف، وحضرها معالي الوزير والسفير آنذاك د.عبدالعزيز خوجه مع جمع من العلماء والأدباء والمسؤولين، وهي ثاني ندوة تعقدها الثلوثية عن عميد الرحالين العرب حسبما وصفه الكاتب المشوح في سفره الضخم الذي ألّفه عنه».
برامج اللقاءات
ومن شواهد سدانته للعلم والعلماء ما شهد به الشيخ العبودي في ترجمته الضافية التي كتبها عن الشيخ الدكتور محمد بن عبدالله المشوح، قال في معجم أسر بريدة (20/ 17-18) «ومنهم [أي المشوح] الأستاذ الشهير الدكتور محمد بن عبد الله بن إبراهيم المشوح وهو الذي يقدم برنامجي في الإذاعة (حول العالم: مشاهد ورحلات) الذي ألقيت فيه حتى الآن 1428هـ - 235 حلقة، وهو مستمر منذ عدة سنوات. وكان الدكتور محمد المشوح، وهو اجتماعي طُلعة، له اتصالات بعِلية القوم وكبارهم حتى الوزراء، اتصل بي ورغب إليَّ، بل ألحّ بالطلب أن أسجل في حلقات تتضمن ذكرياتي عن بعض المشايخ والأعمال التي قمت بها. فاستجبت لرغبته وسجل عدة حلقات تبين لي فيما بعد أنها جزء من برنامج له كان يقدمه للإذاعة السعودية عن العلماء المعاصرين وأحاديثهم. وكان هذا البرنامج مفتاحًا بل مدخلًا للوصول إلى البرنامج الذي صار بعد ذلك حديث الناس، وتابعه المثقفون والعامة وهو (حول العالم: مشاهد ورحلات) وهو مقصور عليّ ألقيه كل أسبوع ويقدمه الدكتور محمد المشوح. ولولا إلحاحه في كثير من الأحيان عليّ لما كان استمر هذا البرنامج، لأنني أكون مشغولًا أحيانًا بالسفر أو بطبع بعض الكتب أو إعداد كتب أخرى للطبع، ولكنه يلح عليّ ويثابر على ذلك حتى يحصل على الحلقات الجديدة. والحقيقة أنني لم أكن أتصور أن يكون للبرنامج هذا القبول من الناس؛ ولكن تبين لي أن مرجع ذلك إلى كون الناس يحبون أن يسمعوا الحديث عن إخوانهم المسلمين في العالم، إضافة إلى المعلومات العامة عن البلاد التي أتكلم عليها، وما كنت لاقيت فيها من أشياء سارة أو أشياء غير مشجعة للدعوة والدعاة. وقد مضى على بدء هذا البرنامج حتى مراجعة هذه السطور في عام 1425 خمس سنوات، وأشهر ومازال متصلًا، وأكثر علينا الناس في طلب تسجيلاته فكانوا يسألون عن الحصول على تسجيلات لحلقاته فأخبرهم أنني لا أعتني بذلك، ولا أهتم به، وهذا هو الواقع، وأحيلهم على الدكتور المشوح».
ندوة الثلوثية
قال الشيخ العبودي في معجم أسر بريدة (20/ 18) «وأذكر أن الدكتور محمد المشوح بني له بيتًا واسعًا، بل قصرًا في شمال الرياض، وجعل فيه ما يشبه الندوة في مساء الثلاثاء من كل أسبوعين، وقد حضرت إحداها، وكان ضيفه الذي تكلم فيها هو الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وزير الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، وقد تكلم الوزير في الندوة التي حضرها جمع من العلماء والأدباء والإذاعة ورجال الصحافة. ثم صرت ضيفًا على إحدى جلساتها بعد ذلك. ثم تواصلت جلساتها واستمرت سنوات، وعرفت باسم (ثلوثية) المشوح، إضافة إلى كونها في مساء الثلوث وهو الثلاثاء. ولم تكن مجرد مجلس علمي، بل كانت مجلسًا أشبه بمجالس الملوك، يَذبح فيها الأستاذ المشوح في كل ليلة (ثلوثية) أربع ذبائح إلى ست ذبائح، مع جميع ما يتبعها من فاخر الطعام، وغالي الشراب، مما تعجز عن السخاء به نفوس كثير من الأغنياء بل الأثرياء».
وقال أيضًا في معجم أسر بريدة (20/ 19-20) «وقد كانت الفكرة في بدايتها هي إقامة مجلس ثقافي عام تستضاف فيه إحدى الشخصيات الثقافية والفكرية المعروفة من الذين لهم اهتمام أو مشاركة في العلم والأدب والفكر والثقافة متحدثا عن تجربته العلمية أو سيرة حياته الشخصية أو يتم اختيار موضوع سهل التناول والاستماع إليه من قبل الحضور؛ ذلك أن التباين في الحضور من الضيوف يستلزم مراعاة الفوارق الفكرية والثقافية بعيدًا عن المحاضرات العلمية المتخصصة التي قد يكون روادها من المهتمين في ذلك الجانب العلمي فقط. كما عنيت (الثلوثية) بالمستجدات الثقافية العامة والشأن والحدث الاجتماعي وسعت إلى استضافة بعض أولئك من لهم مشاركة أو الإسهام في تلك الشؤون. وتسعى التلوثية إلى منحى آخر يتضمن رمزية الاحتفال والتكريم للشخصية التي تستضيفها عبر تقديمه للحضور وبيان سيرته الذاتية، وجهوده العلمية، وفي نهاية اللقاء يتم تقديم درع تذكاري له، بهذه المناسبة وتناول طعام العشاء.
كما دأبت الثلوثية على إتاحة أكبر قدر ممكن من المداخلات والتعليقات من قبل الحاضرين، إضافة إلى الاستماع إلى الأسئلة وعدم التردد في الطرح الجاد والمفيد». ثم ذكر أهداف الثلوثية نقلًا عن الدكتور المشوح. وعدد طائفة من المكرمين في تلك الندوة منهم أستاذي منصور الحازمي وأحمد الضبيب. وشهدنا بعد ذلك تكريم أستاذينا محمد الهدلق ومحمد خير البقاعي، وكان لي شرف التكريم في هذه الندوة المباركة في 9/ 04/ 1437 هـ. وصحبني في تلك الليلة أخي الحبيب محمد أطال الله عمره.
تأليف الكتب وكتابة المقالات
أما تأليف الكتب فقد عرض له الشيخ العبودي في معجم أسر بريدة (20/ 25) قال «ومن مؤلفات الأستاذ الدكتور محمد بن عبد الله المشوح صاحب الثلوثية كتاب: (في موكب الدعوة) ضمنه المقابلات والأحاديث التي سجلها لطائفة كبيرة من العلماء في المملكة العربية السعودية، وأكثرهم لاقوا ربهم، ولذلك صار لهذه الأحاديث التي سجلوها للأخ الدكتور محمد المشوح أهمية كبيرة... (مفردات) مطبوع - 1422 هـ - وهو عبارة عن مقالات فكرية واجتماعية منوعة. (عميد الرحالين محمد بن ناصر العبودي حياته وإسهاماته وجهوده)، مطبوع 1424 هـ». ومن كتبه: (فقيد الثقافة والتاريخ د عبد الله العسكر) 07/11/2018م. (مقام المحاماة) صدر عام 2014م. ومن مقالاته ما أكرمني به وهو (لماذا دمعت عينا «أبي أوس»؟) نشر في المجلة الثقافية، العدد 573-صحيفة الجزيرة-الرياض، السبت 7 رجب 1439هـ/ 24 مارس (آذار) 2018م العدد 16613.
دار النشر (الثلوثية)
ومن سدانته للعلم والعلماء هذه الدار، قال أحمد بن عبدالمحسن العساف في مقاله الذي ذكرته آنفًا «كما نشرت دار الثلوثية عددًا كبيرًا من الكتب والدراسات الخاصة بتاريخ المملكة، وسير شخصياتها، ومواضعها، والرحلات إليها، ووثائقها، وشؤون الحرمين، أو سعى الناشر المثقف إلى جلب الكتب الخاصة بهذه العلوم من المعارض العربية إلى مكتبته الزكية بمحتواها».
وقد أورد الشيخ العبودي قصائد مدح في هذه الدار المباركة التي تولت نشر كثير من كتبه ومعجماته. وأذكر أنه في ليلة تكريمي خرج معي الدكتور المشوح يودعني محتملًا على كتفه كرتونًا ضخمًا ضم عددًا من إصدارات الثلوثية منها بعض مؤلفات الشيخ العبودي ومعاجمه.
مشاركة المشوح في معارض الكتب
كتب أحمد بن عبدالمحسن العساف في مقاله السابق «عن مشاركاته اللافتة في معارض الكتب»، وأن «لركنه حيوية جعلت الساسة يقصدونه بالزيارة كما حدث في العراق، ولركنه مزية أخرى تتجاوز عرض الكتب إلى توافر القهوة العربية، وتمر السكري، والمخبوزات القصيمية، ومعها البشاشة المعهودة من د.المشوح». وقد رأيت ما وصفه العساف في معرض الرياض.
وما أجمل ما ختم به أحمد بن عبدالمحسن العساف مقاله عنه، قال «إن د.محمد المشوح بما وهبه الله من خصال، وبما فتح عليه من أبواب الثقافة مشافهة ومكاتبة، وبما له من علاقات داخلية وإقليمية، مع المعرفة البصيرة بهذا المجال وما يدور فيه، لجدير بأن يكون من الرموز التي يشار إليها بالبنان كي تعبر عن عراقة مجتمعنا، وتدفع إلى واجهة تمثيل بلادنا وثقافتنا، للتعريف بتاريخها وشعبها ومكوناتها، فالإنسان الحصيف لا يسوء أهله، ولا يجلب المضرة لبلاده، بل يكون سبب خير وسعادة، ومفخرة لمن ينتسب إليهم، وهكذا هو صاحبنا الذي أضاف للثلاثاء عبق العلم والكرم».
** __ ** ** __ ** ** __ ** ** __ **
(*) قال العبودي في معجم أسر بريدة (20/ 7) «المْشَوِّح: بإسكان الميم وفتح الشين فواو مشددة مكسورة وآخره حاء». وكتبت في (معجم أسماء الناس في المملكة العربية السعودية) عن الاسم (مْشَوح) «أي مُشَوِّح، منقول من اسم الفاعل (مُفَعِّل) من الفعل (شَوحَ). جاء في (تاج العروس) «شَوحَ على الأَمر تَشْوِيحًا: أَنْكَرَ». وقد يكون من الشوح وهو في بعض لهجات الجزيرة بمعنى السير السريع، جاء في (كلمات قضت) «(الشوح): السير السريع، أي العَدْوُ والجري»، وبكسر العين منه ضبطه العبودي في (معجم أسر بريدة) قال «بإسكان الميم وفتح الشين فواو مشددة مكسورة وآخره حاء»، ولكني سمعتهم يفتحون الواو منه حتى العبودي سمعته يفتحها، ولعلهم يريدون بالفتح التخفيف».