د. شاهر النهاري
الإنسان عرف البدائية المغرقة في سكنى الجحور وبطون الأودية وأواسط الغابات، قبل أن يتشجع، ويتعرف أكثر على محيطه، والتطلع إلى ما يوجد في المسافات، فغامر وشق الصحاري، وصعد قمم الجبال، وواجه المجهول في البحار، وغزى أطراف الكرة الأرضية، وبلغ ثلوج القطب الشمالي والجنوبي، طمعاً في معرفة أكثر، وأمان أشمل، ويقيناً بمكانه وزمانه، وديمومة أمن عيشه وموارد رزقه، مهما تباعدت حبال طلبها.
كل ذلك قبل أن ينظر الإنسان للطير متطلعاً للآفاق، ويحاول محاكاتها بالطيران، فكان أن بلغ ذلك بعد عصور من التفكير والمحاولات والفشل، لم يتوقف عندها، حتى غزا الفضاء، وزار القمر، وأصبحت لديه رغبات أكيدة بأنه سيبلغ المريخ، وما هو أبعد.
ولو بحثنا وتمعنا في كنه صنف البشر في كل مرحلة، لوجدنا الفروق الواضحة تميز صنفاً عن صنف ليس فقط في الشكل، ولكن بمقدرات المخ، المتراكمة منها، وما يستجد من أنواع من العلماء، لا تكون حياتهم، ولا أفكارهم موجودة بكثرة، بل إنها إن وجدت فهي ندرة تحتاجها البشرية، ليس للوقت الحالي، ولكن في المراحل المفصلية، والمستقبلية.
ومثال على ذلك في يومنا البليونير الأول عالميًا، والمفكر الذي يصفه الكثير بالمتهور، وربما يعتقد البعض أنه مجموعة جنون إنسان، ولكنه يظل أبرز من عرفته البشرية في عصرنا، ليس فقط في قدرته على تكوين الثروات الهائلة، وإنما بالانخراط في جوانب التقنية العلمية المستحيلة، فتنقل من عمل إلى آخر، وكم قامر بكل ما يمتلك، لطموحه الشديد بأنه يعرف، وأنه يستطيع نقل البشرية معه، إلى مراحل جديدة قد لا يتصورها غثاء البشر.
في العالم مئات ملايين العقول ما زالوا يقدسون المؤامرة، وينكمشون وسط مخاوفهم وأوهامهم، ليشككوا في كل عمل عظيم يسعد وينهض بالبشرية، وكل معلومة وفكر، ليظلوا بتخلفهم يرفضون أن الأرض كروية، ولا يصدقون بأن الإنسان قد نزل على القمر، ما يجعلهم في حفرة فكر سحيقة، لا يرتجى لهم خروجاً منها، في زمننا المنظور.
أمريكا بعد نزولها على القمر 1969 تكاسلت، واستكثرت ما تصرفه من أموال في مشاريع وكالة ناسا للفضاء، فلم تعد تفكر بالعودة للفضاء الخارجي، إلا من خلال صواريخ روسيا، والتي أبدعت في استمراريتها، وتحدياتها، وصنع محطة فضائية دائمة تدور حول الأرض، يصعد إليها كل فترة طاقم من رواد الفضاء، يشغلونها، يجددونها، ويقومون بدراساتهم العلمية التطبيقية من خلالها، وبأسعار في المتناول.
وأتى إيلون ماسك، وطالب بترك المهمة الوطنية، والبشرية له وللقطاع الخاص، بأسعار منافسة، فكان الرفض مبدئياً، قبل أن يُسمح له بذلك بعد شروط ضمان للدولة الأمريكية ووكالة ناسا بأن تكونا شريكتين في القطاف.
إيلون، مجنون من وجهات أنظار أغلبيتنا، فكيف يقامر بتسعة أعشار ثروته، في مشروع رغم روعته، إلا أنه محاط بسهام المستحيل.
ولكنه غير جديد على المخاطرة، والتقنية، فأثبت أنه صنف جديد على البشرية، يحبذ العمل سوية مع من يؤمنون بما يفعلون من علماء ورواد فضاء في تجارب وتصميمات وبناء صواريخ الفضاء، ومشاريعها شبه المجنونة، فكان له ذلك، ليس بمليارات تاجر فقط، ولكن باعتباره هو ورفقته من نوادر العلماء والمحترفين للصناعات الفضائية الواعدين بفتح أبواب الفرج لبشرية المستقبل.
شخص واحد، تمكن من إعادة شعب أمريكا للمنافسة الفضائية مرة أخرى، وبعد أن عجزت الدولة عن ذلك، ومن يتتبع رحلة تطلعه، وإصراره، وبلوغه مناطق الضيق، والذي كان من الممكن أن يجعله يبلغ اليأس، غير أنه إنسان سبق بقية بشرية العصر، ليس بالتهور، ولكن بالحنكة والقدرة ومعرفة أن النجاح يحتاج إلى دقة وذهنية التعلم، وكثير من الفشل والتجارب قبل أن يتحقق.
صواريخ بأحجام ناطحات سحاب، يتم بناؤها بأدق وأمتن الطرق، وتنتهي بخطأ بسيط وبمجرد إطلاقها، أمام البشرية، التي تقف من خلفه، فلا يلبث أن يعيد الكرة، بعد استيفاء دراسة أسباب الفشل، والعودة بقوة، وبآمال عظيمة بعدم تحطم الصواريخ الفضائية، وأنه لا بد من عودتها إلى قواعدها سالمة، لتستخدم مرات ومرات.
لقد سار على درب المستحيل، حتى احتفلت أمريكا معه، بإطلاق صاروخ يحمل رائدي فضاء إلى المحطة العالمية السابحة فوق الغلاف الجوي، ونجحت الرحلة ذهاباً وإياباً، وعاد صاروخها الضخم إلى قواعده، في قفزات للبشرية لا بد من تذكرها، وتأكيد قيمتها.
كل من عملوا معه من رواد فضاء وعلماء كانوا يمثلون جنساً جديداً من البشرية، بما كانوا يفعلون بأنفسهم وبأسرهم ضمن جهود لا يمكن أن يتفهمها وينخرط فيها من لم يعرف قدر ما عرفوا، ولم يشد حبال صبرهم، ولم يترق إلى مناطق مختلفة من الثقافة والتعليم والمعتقد واليقين والدقة، فكان عملهم المتحصل من ألفه إلى الياء بأيديهم، وليس بأيدي غيرهم، متدرجاً بخطة بلوغ المحطة الفضائية، ثم النزول على القمر محطة مفصلية، ينتقلون بعدها إلى كوكب المريخ، في رحلة قد تنهي علاقتهم بالأرض إلى حلم خيال علمي بعيد بزرع البشرية هناك، وبكل تواضع، فلا دعايات كاذبة، ولا ادعاء ما لا يفعلون، ولا حمل الحملان على المسير لمرعى لن يبلغوه بإرادتهم ومعرفتهم وقدرتهم الشخصية.
لهم السبق، ولنا النظر والتنظير، لهم الحلم بغزو كوكب بعيد، حال ضاقت الأرض عليهم، ولزم تطويع المنزل الجديد للبشرية، ولنا نحن التشكيك والحوارات الضيقة، المتطاحنة على البديهيات، وكيف نقوم بصنع القبة من حبة ليست موجودة أصلاً بباطن التربة.
يوجد عدد من الأفلام الوثائقية على قنوات عدة، تحكي المسارات الهائلة لإيلون، بكل أستاذية منشرحة، وما على شبابنا إلا العودة لها لتفهم الفروق، وأن يتعلموا من الصفر، ويدركوا المبادئ والأساس والبنية التحتية والأهداف والأغراض لأي عمل عظيم مهما صغر، يقود البشرية، وأن يؤسسوا عقولهم منذ البدايات على الصدق والاعتماد على الذات والنبوغ، والطموح، وملاحقة الأحلام البعيدة بعقول قريبة من الأرض لا تتغطرس، ولا ترائي، ولا تقفز فوق الحلول، ولا تختصر المسارات العلمية، من أول الطريق، وأن يتم بناء عالم من الفكر الفضائي، بأسس قويمة، وليس بأموال تجعلنا نعتقد أننا نمتلك قياد المسار، وهو أبعد لنا من المريخ.
إيلون ماسك ومن يعملون معه لم يقفزوا من خارج الصورة ليحركوا من فيها، ولكنهم عرفوا تفاصيل ومحتويات وفنون وعجائب عظمة أمريكا قبل خمسين عاماً، وقرروا أن يلتحقوا بركب فاتهم، بداية بفعل ما تم إنجازه، واحترام أوائله ونوابغ جزئياته، وبعد ذلك أن يصبحوا جزءاً متكاملاً مع المنظومات العلمية، وأن يبحثوا عن الحلول الجديدة، والتي لم تكن متوفرة لأمريكا في الزمن القديم، وكان لهم ذلك بكل قدرة الحاضر، لذا يحق لنا أن نطلق عليهم وصف الإصدار الأخير الأكثر تطوراً من البشرية.