د.حسن مشهور
كثر في الآونة الأخيرة، المشتغلون بجنس الكتابة القصصية، فلو جربت أن تلتفت يمنةً أو يسرة في أي محفل أدبي ستجد قاصا أو قاصة أو من يتكنى بهذه الصفة الأدبية من الجنسين. والسؤال؟ هل كل من يكتب نصًا يحوي حكاية يصيغها بأسلوبه هو قاص، أو يمكن أن نطلق عليه هذه الصفة، أم هو حكواتي آخر، كأولئك الحكواتية الذين كانوا يجلسون في مقاهي دمشق الشعبية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ليرفهوا عن رواد المقهى بقصة جمزة البهلون وأبوزيد في السيرة الهلالية، لينقسم رواد المقهى إلى فئتين، إحداهما تقف إلى جوار الجماعة الخيرة ومطالباتها المشروعة، في حين تقف الأخرى إلى جانب الأشرار، لتعلق في خضم عرض الحكواتي لمفصليات من القصة الشعبية خصومة بين كلا الفريقين تنتهي بمعركة بالكراسي أوكما يطلق عليها الإخوة في الشام لفظة «عركة» تتطاير فيها الكراسي التي تصيب الرؤوس والتي لايسلم منها الحكواتي نفسه في بعض الأحيان.
حقيقةً، إنه لايوجد خيط رفيع بين الحكواتي وكاتب القصة القصيرة، وإنما هناك بون شاسع بمعايير النقد الأدبي العالمي، ولن أتحدث هنا عن الأقصوصة أو القصة القصيرة جدًا لأنه بعدٌ كتابي آخر يحتاج لمقال آخر. وأعود للقصة القصيرة فأقول إن من يكتب قصة قصيرة بمعناها الأدبي، أو بعبارة أخرى وفق الاشتراطات الأدبية العالمية لتصنيف العمل باعتباره قصة قصيرة، فعليه أن يأخذ بعين الاعتبار جملة من الأمور، يأتي على رأسها إنه ينبغي أن يبني قصته على فكرة رئيسية Theme، أو كما يحب الأصدقاء من أدباء شمال أفريقيا أن يطلقوا عليها «الثيمة»، وهي مفردة معربة عن الإنجليزية التي نقلتها عن الفرنسية القديمة التي أخذتها في الأصل من لاتينية العصور الوسطى The›ma، وتعني فكرة أساسية.
ليتم عقب ذلك اختيار شخصيات هذه القصة القصيرة، في حالة كان هناك تفاعل ثنائي بين عناصر القصة القصيرة، وليست مجرد قصة تعبيرية يتحدث فيها القاص عن رؤيته للعالم من منظوره الخاص على سبيل المثال لالحصر. وهذه الشخصيات أو كما يطلق عليها البعض كركترات العمل Characters، ينبغي أن يكون عددها محدودا، وإلا فإننا في هذه الحالة بإزاء مشروع كتابي آخر قد يتطور ليصل لكتابة رواية.
وعلى ضوء ذلك يقوم القاص «الحقيقي» - وأعني بذلك من يملك الموهبة وعمل على صقلها سواء بالدراسة أو بالقراءة العميقة في النقد الأدبي المتخصص- بصهر عناصر العمل القصصي في قالب تفاعلي يسمى بالحبكة القصصية Plot، وهو تعبير يمثل عالم متخيل يتفاعل فيه مجمل عناصر العمل القصصي ليتشكل على ضوء ذلك مانسميه بالقصة القصيرة، ويمكن للقاص أيضًا أن يجمل قصته ويضفي عليها رونقها الخاص، عبر لجوئه للرمز إذا ماتطلب العمل القصصي ذلك، ولتوظيف المحسنات اللفظية بذكاء والأيقون إن تطلب العمل القصصي ذلك.
إن القصة القصيرة كجنس أدبي يعد من أعقد أنواعيات الأدب العالمي التي لاتنهض على التلاعب باللفظ أو الإيغال في الغموض، وإنما الأمر أعمق من ذلك. ومن هنا فَجُلّ مانطالع من نتاجات كتابية وأمسيات تقيمها الأندية الأدبية تحت مسمى ليالٍ سردية...الخ، إنما هي ممارسات حكواتية ارتجالية قائمة على فهم قاصر ومحدود لمفهوم القصة، ولاتحوي في ذات الوقت على التشكيل المنهجي ولا الاشتراطات العلمية النقدية التي تجعلنا نطلق عليها لفظة قصة.
ومن هنا فالجهات المختصة سواء المؤسسة الثقافية الرسمية الكبرى في الداخل السعودي وأعني بذلك وزارة الثقافة، أو أيٍ من أذرعها التنفيذية مطالبة بتنفيذ دورات تدريبية «نوعية»، وليست تقليدية على آلية كتابة القصة وفقه اشتراطاتها الصحيحة، وتشكيلها البنيوي الدقيق.
كما أن من يملك الموهبة والرغبة في كتابة القصة القصيرة، عليه أن يهتم بمطالعة أدبيات النقد الأدبي التي تعاطت مع فن القصة القصيرة وكيفية تشكيلها ورسمها كتابيًا، وعليه أيضًا أن يقرأ وبكثافة وعمق في أنماطٍ من الكتابة القصصية العالمية، ولو تم ذلك في لغتها الأم لكان الأمر أجود. ويقيني بأن هذا الأمر سيسهم في إحداث نقلةٍ نوعية في تصنيف من يعدون أنفسهم كتاب قصة قصيرةٍ، بحيث ينتقلون من مربع الحكواتية إلى مربع القُصّاص.