عبد الرحمن المعمر
لم أعد أذكر كيف عرفت الدكتور محمد بن عبدالله المشوح المستشار القانوني الضليع، كما لا يحضرني متى وأين التقيته أول مرة؟ فمثل هذه المعرفة تأتي كنسيم الربيع لا يدري الإنسان كيف ومن أين أتت؟ وهي نسائم هادئة تسري رخاءً حيث تصيب:
أيا محتدًا هبت نسائم ذكره
وقد هيمنت في الجو تنشي وتطرب
لكنني على كل حال سعدت ومنذ زمن بهذه المعرفة، وكل يوم أزداد إعجابًا وتقديرًا بهذا الرجل المكافح الذي بنى نفسه بنفسه حتى نال الدرجة العالية في القانون وهي الدكتوراه أو الدكتورية كما يفلسف بعض الأدباء الكلمات على طريقة الأستاذ محمد حسين زيدان، وقبلها تخرّج في كلية الشريعة مع قراءاته وتتلمذه على المشايخ فأصبح فقيهًا قانونيًّا.
والأخ محمد جواب آفاق وجمّاع للكتب والأوراق ولديه أرشيف كبير من الوثائق والمصنفات والكتب والمدونات، يهتم بالمعلومة ويُسَرُّ بالوثيقة، يحتفي بها ويُثيب من يجلبها إليه ولهذا أصبح من أكثر المطلعين على الأحوال الاجتماعية والمعلومات التاريخية، فإضافة إلى كونه فقيهًا قانونيًّا فهو خبير اجتماعي وباحث تاريخي، لا تسأله عن قصاصة إلا وجدت خبرها عنده، ولا عن وثيقة إلا أنبأك عنها، ولا عن كتاب قديم إلا حدّثك عن نسخة نادرة منه، ولا عن مجلة انقطعت إلا سرَد لك قصتها. وقد ازدادت صلتي به يوم علمت أنه صهرٌ لمعالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي حيث لم تقف علاقة الأخ محمد بالشيخ العبودي على المصاهرة فقط؛ بل كان المشوح أبرز تلاميذ العبودي وأقرب مريديه وأوفى حواريه، وراوية تاريخه وأمينه على إرثه ومؤتمنه على نشر كتبه، والعلاقة بين العبودي والمشوح تستحق أن تُدْرس وتُوثَّق ولا يكفيها إشارة عابرة في مقال.
والدكتور المشوح رجل محيط، فهو مؤرخ ومجغرف ومتحدث ومؤلف يسعى ما وسعه الجهد لأن يؤدي كل شيء بإتقان. أهنئ الأخ محمد على هذا الموقف الذي اختاره لنفسه وهو موقف الاشتغال بالأمور الجادة والتصدي لعظائم الأمور:
وإذا كانت النفوس كبارًا
تعبت في مرادها الأجسام
وهو لمن لا يعرفه رجل وطني بامتياز لا يعرف الإقليمية ولا العنصرية ولا الفئوية ولا الجهوية، فللمشوح في الحجاز محبون وفي الأحساء متابعون وفي الشمال معجبون وفي الجنوب مقربون، وهكذا يجب أن يكون المثقف الحقيقي. كما أنه قوة سعودية ناعمة بمشاركاته في المحافل الثقافية داخل المملكة العربية السعودية وخارجها، فقلَّ أن يخلو مؤتمر أو ندوة أو أمسية ثقافية دون أن يكون للمشوح فيها بحثٌ أو ورقة علمية أو مداخلة وذلك أضعف الإيمان. أما معارض الكتب وحرصه على المشاركة فيها من خلال جناح دار الثلوثية فأعرف أن ذلك الحرص مرده اهتمام المشوح بنشر الكتاب السعودي، وقد سنّ سنة حسنة باتخاذ مجلسًا ومتكأً في أحد أركان الجناح يستقبل فيه الضيوف من الأدباء والمثقفين وغيرهم، يقدم لهم التمر والقهوة السعودية، ويدير معهم الحوارات وينقل الصورة المثلى لثقافة بلاده. كما أنه لا تطأ قدماه أرضًا إلا بادر بزيارة مكتباتها ومراكزها الثقافية ومعالمها التاريخية ووثق ذلك ودونه على مذهب شيخه العبودي.
والدكتور محمد صاحب مبادرات، ويحمد له أنه أعلن عن تأسيس جمعية العناية بالمكتبات الخاصة للمحافظة على مكتبات الأفراد بعد رحيلهم، وهذه الجمعية أحسب أنها ستحفظ تلك الكتب والمصنفات التي تعب أصحابها في جمعها طوال حياتهم، ثم آل كثير منها بعد وفاتهم إلى التلف والضياع، وانتهى بها الحال إلى البيع في حراجات المسترجعات كأنها ثلاجة قديمة أو أثاث عفَّى عليه الزمن.
كما أذكر أنه دعا قبل سنوات إلى تجمع لأصحاب الصوالين الأدبية، وأراد أن يكون لها مظلة تجمعها، وتحدث في ذلك مع الشيخ عبدالمقصود خوجة، وأطلعني على كراسة عن تلك المبادرة أو المشروع، ولا أدري أين انتهت تلك الفكرة.
ويكفيه أنه أسس ندوة الثلوثية التي أحسن فيها إلى نفسه وإلى أصدقائه، وكرَّم فيها عددًا من العلماء والوزراء والفضلاء والأدباء والشعراء والأكاديميين، وحرص على تسجيل وتوثيق تلك الندوات والأمسيات، كما ألحق بها دار ومكتبة الثلوثية لنشر الكتب المميزة والمفيدة واهتمامه بكتب التاريخ السعودي وتسهيل وصولها إلى الناس ووصول الناس إليها وصبره على لأواء النشر ومتاعبه ومنغصاته، فحيَّا الله الأخ محمد وحيَّا جهوده الكبيرة والعظيمة والتي تمثل جبهة ثقافية ينطبق عليها قول شاعر العروبة الكبير بدوي الجبل:
كأنما أنت في الدنيا وجبهتها
تدور حيث يدور المجد والحسد