على الرغم من ابتعادي عن التجمّعات الثقافية لزمن طويل وضعف رغبتي في الحضور إليها مستقبَلًا، لأسباب شخصية، ولأسباب معلومة شائعة في كل عصر، من أظهرها الاستئثار بالحديث، فضلًا عن الشللية والوشايات، والمبارزة بالعيون.
إلا أنني حضرت إلى مجلس الدكتور المحترم جدًا محمد بن عبدالله المشوّح دون دعوة مرتَين، لأنني رأيت في زيارتي الأولى في مُحيّاه وعلى لسانه أن الذي يحضر محبة ودون دعوة إلى مجلسه أحبُّ إليه ممن يحضر بدعوة خاصة إلى هذه الثلوثية الشهيرة التي يتوافد إليها أهل العلم والمعرفة والثقافة فتحتَفي بهم وتُكرّمهم على الطريقة السلَفية المتوارثة منذ العصر الأموي ثم العباسي، وإن كانت التقاليد المُتَّبعة فيها قد تغيرت و تطوّرَت.
أتذكّر زيارتي الأولى كان الضيف فيها صاحب المعالي الشيخ: صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ، الرجل البحر صاحب المعارف الموسوعية، الذي كل يتمنّى مجالَسته ويُفيد من علمه ومعارفه، حينها كانت هذه عودة أولى بعد جائحة كورونا، طاف الدكتور محمد بالمعالي كريم الشيم وسليل رجال الخُلُق والعلم على الحضور وأخذ يُعرّف بهم واحد تلو الآخر، حتى انتهى به المجلس واستقر الشيخ صالح في المكان المخصص للضيف، وكم كنت سعيدًا بالسلام عليه، وكنت أسعد من ذلك عندما قال الدكتور محمد للمعالي: هذا الأستاذ بسام الهويمل، فأخذ المعالي يسأل عن حالي وعن أُسرتي.
أتحدّث بهذه السعادة، وأنا أعلم أن على المرء ألّا ينتظر أن يُشارَ إليه بمعرفة أو أُستاذية في فنّ ما مادام يتمتّع بالثقة ويجد ذلك بين أَضُلعهِ، وألَّا يتحرّى الإنصاف من مثل هذه التجمّعات إلا من رحم الله، وقد كان الدكتور محمد المشوح من الذين دخلوا في رحمته.
فالدكتور المشوح صاحب مشروع وطني ثقافي مؤسسي، يُنصف الآخر، أو يرفع من معنوياته، إنه لا يُريد أن يستأثر بالأمر وحده - ويحق له ذلك - بل يُريد للمجتمع المثقّف أن يصلَ متكاملًا، فالقمة تتّسع للجميع والوطن يستحق منا أن نتكاتف حتى نصل به إلى مصاف الدول المتقدمة، وسَنَصِل بحول الله وقدرته، ثم بأمثال الدكتور المشوح أصحاب الرؤى التقدّمية الذين رُزقوا التخلّص من أدران الأنانية والفردانية.
وفي لقاء آخر، كان الضيف فيه: الأستاذ إبراهيم التركي، بمناسبة انتهاء مشواره الصحفي في رئاسة تحرير الجزيرة الثقافية، التَقيت بالأستاذ الكبير: خالد المالك، وقد كانت تلك الليلة من أجمل الليالي الثقافية التي شَهِدتُها، وقد كان الدكتور محمد كعادته، أصيلًا طيبًا، مرحّبًا بي وبالحضور ويشكر التفضّل بالمجيء.
وهنا يحق لي أن أتسائل: كيف لي ولغيري أن نلتقي بهذه الشخصيات الثقافية الكبيرة التي رأيناها في ثلوثية المشوح في وقت بات من المستحيل فيه أن يلتَقي بهم المرء في حياته لأسباب عدّة، منها على سبيل المثال: تقدمهم في العمر، وغربتهم الروحية والثقافية عن هذا الجيل الذي هم فيه، أو بسبب المشاغل وكثرة الأعمال.
أفلا يحِق لي أن أتحدّث عن قيمة هذا الرجل في المجتمع؟!
ثم إنني التَقيتُه مرتين في معرض الرياض الدولي للكتاب، وفي المرة الأولى التي بعد جائحة كورونا، مُنعت من الدخول إلى المعرض لأنني لم آخذ الجُرعة الثانية، فعُدت إلى بيتي مكسور الخاطر وقد غمرني حزن، وبعد أخذي الجرعة توجهت إلى المعرض ويُقدّر الله أن ألتقي الدكتور محمد في داره دار الثلوثية ، فرحّب بي كثيرًا، ودعاني إلى الجلوس في مضافته التي استقبلت واحتفت بالمثقفين المحليين و العرب، وبعد أن تناولنا القهوة قال لي: تضايقنا البارحة عندما لم تستطع الدخول إلى المعرض، ليتنا كنا نعلم فنحاول في مسألة دخولك عند المسؤولين، فشكرت له هذه المشاعر وامتننت له على هذه المشاطرة غير المستغربة منه، ثم تحدث عن الدور الضعيف الذي صارت إليه النوادي الأدبية، وعدم مشاركتها في ذاك المعرض، ثم أهداني بعض المؤلفات من مطبوعات الدار، ومضيت في سبيلي شاكراً.
وفي آخر لقاء جمعنا، كنت أتجول في معرض الرياض الدولي للكتاب، لعام 2022م والتقيت به في أحدى الممرات على سبيل المصادفة، فاستوقفني والحق له، ورحّب بي كثيرًا واحتفى، وقال: لماذا لم تزرنا ؟! فقلت له: هذه أول زيارة لي - وكنا في اليوم الخامس - فقال لي ممازحًا: لا لا، غير مسموح لك أبدًا هذا التأخير، زرنا في الدار لنتحدث ولو لدقائق معدودة، ولكنني لم أزره تقصيرًا مني!
أنني لم ألتقه في حياتي غير خمس مرات وإن أنا قمت بحساب وقت الكلام الذي دار بيننا سأجده لم يتجاوز عدة دقائق، وإذا أسقطنا السلام عليكم و كيف الحال، سقطت بعض هذه الدقائق، وما جرَت بيني وبينه مصلحة دنيوية، بل قد أكون طفيليلًا ثقيلًا جاء إلى منزله بلا دعوة، ولكنه فُطِر على سعة الصدر، ولين الجانب، وأحسن الأخلاق، كيف لا وقد كانت والدته رحمها الله تدعو له في الليل والنهار.
إنني أذكر هذه الوقائع التي جرت لي مع الدكتور لتبيين مسألة دقيقة جدًا تكاد أن تكون طيّ النسيان في هذه الأيام، وهي أن حسن الخُلق، واحترام الناس ومحبتهم، و السؤال عنهم، أو محاولة تذكّرهم ولو على سبيل المجاملة، خير من العلم و المعرفة المجردة من الأخلاق والرجولة،
مع علمي ومعرفتي دون أن يُذكَرَ لي أن الدكتور محمد يُلاقي في ذلك الكثير من العنت و المشقة، وكثرة القيل والقال، والدخول في نيّته، والتحدّث عن مطامعه المُتخيَّلَة من قِبَل الذين لم يستطيعوا أن يكونوا نِصفهُ فضلًا أن يكونوا مثله، ولكنه صابر ويُصابر وهذه هي الأنفُس الكبيرة، فالذين قاموا بمثل هذه المهمات في الحياة لا بد أن تصادفهم أو تُصاحبهم هذه القلاقل المؤذية الصادة عن المواصلة.
إنني هنا لم أكتب لأتحدث عن ثلوثية المشوّح فلقد نطَقَت عن نفسها، ولم أكتب لأتحدَّث عن دار الثلوثية فمطبوعاتها قد لهجت بها الألسُن، ولم أكتب لأتحدَّث عن مشروعه الوطني الثقافي الذي اتضحَت معالمه منذ زمن، ولم أكتب لأتحدث عن مكتبته الشخصية، كتبت عنه لأنه ابتسم لي في يوم ما.
** **
- بسام الهويمل