الشخصيات الملهمة؛ هي التي خرجت من رحِم المعاناة ولامست الهموم، وعايشت الواقع، وكابدت الحقائق، وأيقنت لما تحمل في جوانبها من إبداع يتجدد وثقافة تتنامى وموهبة تتطوّر.. قدرتها على طرق أبواب الشخصيات وسبر ثقافتها، لتنفذ بنا بعد ذلك وراء أسوارها وجدرانها، وفي شخصية دكتور محمد المشوح الأنموذج الوطني المشرّف للمثقف السعودي، الذي حمل على عاتقه همّ الكتابة والقراءة والتأليف والطباعة والنشر، فهو بذلك همزة الوصل الرائعة الذي مدَ فيها جسور التواصل والتعاون بين المثقف ومحيطه الاجتماعي.
إن من أسعد لحظات الحياة.. مجالسة المتميزين المبدعين من أصحاب الحكمة والدراية والفهم والإدراك، حيث تتلاشى معهم هموم المؤلفين وآلامهم ممن ضاقت بهم السبل ذرعًا للبحث عن مخارج آمنة لمؤلفاتهم العلمية والأدبية، وتتدثر في حضرتهم حلل الاحتشام؛ لتكون الشفافية من غير تحرز أو مجاملة هي محاور الطرح ومناط الحديث؛ فهموم المؤلفين تجد ملاذها الآمن -بعد الله- في ناشر أدار صنعته بكل قوة واحتراف.
لقد عرفت دكتور محمد المشوح منذ أكثر من عقدين من الزمن عبر برنامجه الشهير (المسلمون في العالم) مع شيخنا العلامة محمد بن ناصر العبودي -رحمه الله- في رحلاته المباركة للتعريف بقضايا المسلمين.. وعرفته أكثر من خلال لقاءاتي معه في معارض الكتاب الداخلية والخارجية، وزادت روابط الصلة العلمية بيني وبينه من خلال صالونه الثقافي (الثلوثية)، حينما سعدت بشرف التكريم فيه.. وكان لي شرف رد ما تيسر من حسن صنيعه وكرم دعوته، حينما كُرِمت من النادي الأدبي في الأحساء (رائدًا للأطالس التاريخية في العالم العربي) قبل سنوات، حيث كان دكتور المشوح أحد أعمدة الندوة المقامة على هامش حفل التكريم للمحتفى به.
لقد تفرّد دكتور محمد في انتقائية المحتفى به في صالونه الثقافي (الثلوثية) من خلال معايشته للنسيج الثقافي في بلادنا الغالية، متجاوزًا أسوار المناطقية ونحو ذلك، مستحضرًا في الوقت نفسه رابطة الألفة بين أبناء الوطن الواحد، فهو يرى بثاقب النظرة وعميق الخبرة وجميل الدراية؛ أن كل من كان له إسهام في خدمة الحراك الثقافي داخل وخارج أروقة الوطن فهو عمل وطني يستحق التكريم.
بيد أن الجوانب الحقيقية التي تجسدت في أبي عبدالله؛ تلك الغيرة على مستقبل الكتاب الورقي..؟! فما من فرصة سانحة تأتي إليه داخليًا أو خارجيًا إلا ووجدته ييمم وجهه نحو صاحب مكتبة قديمة أو مركز بحثي أو دائرة علمية أو دور نشر، يشد من أزر أصحابها ويأخذ على أيدي روادها بالكلام الجميل والثناء العاطر والدعم المعنوي؛ بل كان يوثق لقاءاته مع هذه النخب أو المراكز العلمية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ليكون لنا شرف المشاركة معه بما يتيسر من تعليقات سريعة.. فنعيش معه بكل حواسنا لحظة بلحظة وخطوة بخطوة.. ينقل هموم أصحابها وتطلعاتهم في قالب ينمّ عن حصافة وبراعة اتسم وارتسم بها.
ويتواصل اليوم العطاء ويستمر التألق وترتقي الهمم مع داره الأدبية ذائعة الصيت (الدار الثلوثية)، التي اختطت مسارها منذ انطلاقتها المباركة بنَفَس أنفاس الوطن الغالي تاريخًا وأدبًا؛ ويكفيه في هذا المقام تبنيه لجميع مؤلفات عمدة الرحالين العرب شيخنا محمد بن ناصر العبودي -رحمه الله- هذا الكنز العلمي الذي لولا الله، ثم جهود الدار لتأخر خروجها.. فقد كانت لداره الفضل -بعد الله- في إخراج هذه الثمار اليانعة لهذه المجموعة العلمية وغيرها لكوكبة من أهل العلم والمعرفة والثقافة، الذين تناولوا أنساب وقبائل وتاريخ وجغرافية وأشعار هذه الأرض المباركة هي خير حصاد يجنيه الوطن عبر هذه المنصة الثقافية الإبداعية الرائعة.
إننا اليوم ونحن نعيش في ظلال هذه الدولة المباركة نثمن عاليًا تبني وزارة الثقافة ذلك المشروع الذي تقدم بطرحه صاحب المبادرات الرائدة دكتور المشوح وهو «تأسيس جمعية العناية بالمكتبات الخاصة»، لتضاف لبنة من لبنات الإسهام المتكرر في سماء الثقافة السعودية.. وليتأكد للجميع كيف تبدع هذه العقلية الوطنية فيما يرتقي بطموحاتنا؟ وكيف تسمو آمالنا لمواكبة الرؤية المباركة 2030 وهي ترفل بثياب الإنجازات المتتابعة..؟
وأخيرًا وليس آخرًا، نأمل من الله العلي القدير أن يحقق للدكتور محمد وفريقه العلمي ما تصبو إليه الآمال، وتتحقق معه الرغبات في الوصول بثقافتنا إلى المكانة التي تليق بها.
** **
سامي بن عبدالله بن أحمد المغلوث - الخبير والمختص في مجال الأطالس التاريخية والإسلامية