لم يدر في خلد القانوني المصري والشاعر المرهف إسماعيل صبري باشا، حين قال متحسرًا على انقطاع صالون الأديبة اللبنانية مي زيادة، فاتنة رجال عصرها من كلّ لون وطيف وعمر:
إن لم أمتع بمي ناظري غدا
أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء!
بأن زميلًا له من أهل الفقه والقانون سيضيف ليوم الثلاثاء عبقًا آخر، ومجلسًا فيه العلم والكرم والإمتاع حتى لو غابت عنه مي الآسرة بثقافتها وعينيها وطريقة كلامها، وسيكون ميلاد هذا المجلس بعد ستين عامًا من رحيل متعة الثلاثاء، وفي الرياض إحدى الحواضر العلمية والدعوية في عالمنا الإسلامي خلال القرون المتأخرة.
- ذلكم هو المحامي والكاتب الدكتور محمد بن عبدالله المشوح، المولود في بريدة بالقصيم شمال الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية عام (1386)، والمتخرج في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ثمّ الحاصل على الماجستير والدكتوراه في التشريع والقانون، وهو صاحب ديوانية ثلوثية المشوح التي افتتحها في داره بحي الغدير عام (1420)، ثمّ أضاف إليها دار ومكتبة الثلوثية في حي الفلاح عام (1428).
حرص دكتور المشوح على التاريخ وعلم الأنساب والبلدان والتراجم والسير الذاتية وكتب الرحلات سواء في المكتبة ودار النشر، أو عبر الديوانية الشهرية التي يستضيف إليها الأعلام من داخل المملكة وخارجها، وكم من رمز في العلم أو العمل المجتمعي أو الرواية الشفهية، غفل عنه الناس فأظهرته الثلوثية متصدرًا في مجلسها العامر العبق بالفائدة والبخور والحاضرين والمضيف، فتسابقت إليه الوسائل والمجالس عقب هذه الاستضافة.
ولم يكتف أبو عبدالله بذلك، بل كان أحد عوامل انتشار علم الفقيه والرحالة معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي، إذ طبع جلّ كتبه أو أعاد طباعتها ليعلم الناس أن في ديارنا من يؤلف كتبًا نافعة تتجاوز المئتين في العناوين والمئات في العدد، واستضاف المشوح الشيخ العبودي عبر إذاعة القرآن الكريم في برنامج أظنه كان يذاع كلّ ثلاثاء، يحكي فيه الشيخ رحلاته التي تمثل قوة ناعمة للمملكة تتوافق مع موقعها وقدرها وما ينتظره الناس منها، وكم أتمنى أن يعاد بث هذه الحلقات بصوت الشيخ الجذاب، وأن تتاح مادتها عبر المنصات الصوتية الكثيرة.
أيضًا أبرز دكتور المشوح شيخه العبودي في المحافل العربية، فأقيمت له ندوة كبرى في المغرب بالتعاون بين الثلوثية وجامعة القاضي عياض؛ حتى يقف المغاربة على جهود إخوانهم المشارقة في العلم والتأليف، وحضرها معالي الوزير والسفير -آنذاك- دكتور عبدالعزيز خوجة مع جمع من العلماء والأدباء والمسؤولين، وهي ثاني ندوة تعقدها الثلوثية عن عميد الرحالين العرب حسبما وصفه الكاتب المشوح في سفره الضخم الذي ألّفه عنه.
كما نشرت دار الثلوثية عددًا كبيرًا من الكتب والدراسات الخاصة بتاريخ المملكة، وسير شخصياتها، ومواضعها، والرحلات إليها، ووثائقها، وشؤون الحرمين، أو سعى الناشر المثقف إلى جلب الكتب الخاصة بهذه العلوم من المعارض العربية إلى مكتبته الزكية بمحتواها، فضلًا عن مشاركاته اللافتة في معارض الكتب، ولركنه حيوية جعلت الساسة يقصدونه بالزيارة كما حدث في العراق، ولركنه مزية أخرى تتجاوز عرض الكتب إلى توافر القهوة العربية، وتمر السكري، والمخبوزات القصيمية، ومعها البشاشة المعهودة من دكتور المشوح.
تلك البشاشة التي تدل على خلق أصيل غير متكلف فيه، يشعر به البعيد، ويستيقن منه القريب، ويعقد عليه الخناصر المراقب، ألا وهو الكرم الجبلّي، فالرجل مضياف ذو دعوات متوالية قلما تتخلّف، ومنزله العامر كثير الأمسيات والموائد غير الثلوثية الشهرية، ومع المجلس الأنيس، والفوائد المستطابة، والحضور الفخم، والطعام اللذيذ، والمؤانسة الدائمة من ربّ البيت، تحضر الكتب في أخبارها وشؤونها، ثمّ تجدها أمامك هدية تخرج بها في نهاية السمر الخالي من المغرم.
كذلك يمتاز الدكتور المشوح بتربية منزلية سامية من أثر عناية أبوين اشتهرا بالتقوى ومخافة الله، وعُرف عن نجلهما كبير بره بهما، وبعد ذلك فهو ابن بيئة علمية، ولصيق بكثير من العلماء والمفكرين والمشايخ، ودرس الشريعة ثمّ القانون، وعرف البلاد العربية ورموزها العلمية، ومكتباتها ومؤلفاتها، وهو الخبير ولا ينبئك مثل خبير.
ولعلّ مثل هذه التركيبة النفيسة قد أعانته على التوازن إذ يعرف الأصول ويتشبث بها ولا يتجاوزها، ويعي المساحات المتاحة ذات الفسحة والمجال للاجتهاد، ومثل هذه السمات بعد فضل الله تحمي صاحبها من الزيغ والانقلاب على الثوابت، وتحول دون التصلب فيما يسع فيه المرونة والليونة، وتعطي المثال على السعة والانفتاح في أهل القصيم وبريدة على وجه الخصوص خلافًا لما يشاع ويعمم عنهم بسوء فهم أو سوء طوية.
إن دكتور محمد المشوح بما وهبه الله من خصال، وبما فتح عليه من أبواب الثقافة مشافهة ومكاتبة، وبما له من علاقات داخلية وإقليمية، مع المعرفة البصيرة بهذا المجا ل وما يدور فيه، لجدير بأن يكون من الرموز التي يشار إليها بالبنان كي تعبر عن عراقة مجتمعنا، وتدفع إلى واجهة تمثيل بلادنا وثقافتنا، للتعريف بتاريخها وشعبها ومكوناتها، فالإنسان الحصيف لا يسوء أهله، ولا يجلب المضرة لبلاده، بل يكون سبب خير وسعادة، ومفخرة لمن ينتسب إليهم، وهكذا هو صاحبنا الذي أضاف للثلاثاء عبق العلم والكرم.
** **
- د. أحمد بن عبدالمحسن العساف
@ahmalassaf