د. عبدالحق عزوزي
شاء الله أن التقيت مؤخراً بأخي وصديقي الدكتور زياد بن عبدالله الدريس، وهو الذي شغل منصب المندوب الدائم للمملكة العربية السعودية لدى منظمة اليونسكو في باريس لمدة عشر سنوات، وفاز مؤخراً في الموسم الأول لجائزة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، للغة القرآن الكريم، في فرع المبادرات الفردية وبالضبط في إطار مبادرة احتفالية اليوم العالمي للغة العربية في منظمة اليونسكو ... تحدثنا عن ذكرياتنا المشتركة في باريس وفاس والرياض، إلى أن توقفنا عند حياة والده -رحمه الله -، الأديب والعالم عبدالله بن إدريس... وقد حصل لي الشرف أن التقيت به في بيته منذ سنوات وهو محاط بصفوة من رجالات الدولة والأدباء والعلماء، وكان يتقن بيداغوجيا الخطاب بما يثير اهتمام سامعيه من مختلف الأعمار والمستويات..
عرف المرحوم بنبوغه المبكر الذي ظهر به وسط نظرائه من الطلبة، وبمواقفه الرائدة، وإنجازاته العلمية العديدة، وكذا المسؤوليات التي تحمّل أعباءها بكفاية فائقة وخبرة كبيرة، في مختلف المجالات التعليمية والثقافية، ونهض بها في إقبال على الحياة بتفاؤل واستبشار، وبنشاط دائب وروح شباب دائم لا يشيخ.
حفظ القرآن الكريم في طفولته، ثم أمّ الناس في المسجد عند شبابه، واستمر طوال عمره لا يشغله شيء عن قراءة حزبه من القرآن كل يوم حتى وفاته، كما يحكي عنه ابنه زيا؛ لكن هذا الرجل المستمر على درجة متوازنة (مستدامة) من التدين طوال حياته، كان أيضاً يكتب الشعر التأملي والوجداني وشعر الغزل تحديداً، ويقرأ المجلات الأدبية الصادرة من الداخل ومن الخارج ومن المهجر، ويأتي بها إلى بيته لتكون بمثابة (اللقاح) لأبنائه؛ كما أنه كان يسافر في الصيف بأسرته إلى مدن السياحة العربية والأوروبية، ويأخذهم إلى المطاعم والملاهي؛ كما كان حسب ما يحكيه ابنه زياد يستضيف في بيته بالرياض المتدينين وغير المتدينين، ويتحدث مع كل الأطياف بمنتهى الأريحية في مجالات اهتمام كل طيف؛ وكان يشاهد التلفاز ويتذوق الفن الأصيل، وتعجبه الأصوات الجميلة، بل وأحياناً قليلة يشاهد مباريات كرة القدم ويستمتع باللعب الجميل، وقد ينحاز إلى أحد طرفي المباراة!
لكن هذا الرجل المتسامح يتحول إلى أسد إذا تطاول أحد المجالسين أو الكتّاب أو الشعراء على القيم العليا للدين أو الثوابت الكبرى للإسلام، أما القضايا الصغرى فهو يقبل النقاش فيها، لكن من غير إساءات أو سخرية... هذا الرجل البشوش الضحوك في البيت يتحوّل إلى عابدٍ بكّاء في المسجد، فهو مِن أصدق من يطبّق مفهوم: الصلاة عبادة وليست عادة... في أيام العزاء قال لزياد أحد الجيران: «لا أتذكّر طوال جيرتنا 30 عاماً أني رأيت والدك في الصف الثاني أو الثالث من المسجد، كان دوماً في الصف الأول، يقرأ القرآن من وقت الأذان إلى الإقامة...
وهذه المعادلة المتوازنة بين الدين والدنيا ليست حكراً على المرحوم عبدالله بن إدريس، لكنها ليست معادلة هيّنة، ولذا فالقادرون على تطبيقها قلّة، كان والد زياد أحدهم.
ويصح القوا أن من نجح في هاته المعدلة، تتوهج أفكاره وتترسخ قناعته، ويضيف إلى الفكر المشاركة وإلى التساؤل الفعل... وبذلك أصبح عبدالله بن إدريس شاهداً وحاضراً ومشاركاً... ومع تراكمات المعرفة والتجربة والعطاء، تكونت شخصيته الجذابة ومواهبه المتعددة وطموحاته العلمية والشعرية والتزاماته الإنسانية.
ولأن الرجل كريم بطبعه فقد تقاسم حصيلة أبحاثه ودراساته حيث ولج عالم الشعر والكتابة وهي إشراقات أغنت الفكر الإنساني وعززت جسور التعايش.
وإذا كنت شخصياً تربيت في أحضان عالم من خريج جامعة القرويين الدكتور إدريس عزوزي، أطال الله في عمره، ومطلعا على خصال علماء القرويين الذين تميزوا بعلمهم الوافر وبوسطيتهم التي لا تعلى عليها، إذ كانوا يجتمعون كل سبت بعد العصر في منزل من منازلهم بالتتابع للحديث الممتع، فأظن أنه لنا الحظ نحن الأبناء أن نتربى في أحضان مثل هؤلاء الآباء العلماء، حيث إن شخصيتنا لا يمكنها إلا أن تكون أغصانا تنمو في هاته الشجرة الطيبة حيث أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها...