أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أصحاب الموسوعة: «من المؤكد حقاً أن معظم الميتافيزيقيين الكبار قد اقترحوا صوراً للعالم منقحة تنقيحاً أساسياً.. صوراً جزئية شاملة، وقد تبعت على الدهشة في كثير من الأحيان.. كما أن الغالبية العظمى منهم قد أفردت مكاناً رئيسياً في الصور لعدد قليل من المفاهيم الأساسية، أو لبعض أنماط مفضّلة على وجه الخصوص من الكائنات خلعت عليها لقب جوهر.
ومن الحق أيضاً أن اختيار المفاهيم الرئيسية والكائنات، وكذلك صورة العالم الناشئة عن ذلك قد تباينت تبايناً عظيماً من ميتافيزيقي إلى ميتافيزيقي آخر، بل لقد خلع الجوهر أحياناً من عرشه لتحل محله فكرة الصيرورة مثلاً» [الموسوعة الفلسفية المختصرة ص 468].
قال أبو عبدالرحمن: ليست كل الصور الغيبية من اقتراح، أو تخيل، أو توهم فيلسوف الميتافيزيقا.. بل من الصور الغيبية ما هو وصف ما يجب تصديقه، ومنها وصف مجمل بناء على آثار المغيب.
وربنا سبحانه لا نسميه جوهراً؛ لأن التسمية توقيفية.. إلا أن حقائق الرب سبحانه المتمثلة في صفاته الصادر عنها الوجود حقائق غيبية.. والعقول، والأرواح، والمادة حقائق مغيبة عرفت بآثارها.
والمناداة أو الجواهر الروحية في فلسفة ليبنتز اصطلاح فلسفي، ولتكن فيه المشاحَّة.. إلا أن المادة والروح حقائق من خلق الله.
والاستخفاف بالميتافيزيقا على الإطلاق وتحقيرها حيلة وباب لإنكار كل واقع مغيب يترتب على الإيمان به الإيمان بالشرع الذي يقيِّد سلوكنا وتصرفنا.
وفي فلسفة ديكارت أنه لا يوجد مسوغ يدعونا إلى الاعتقاد في وجود الأشياء المادية إلا عن طريق الثقة بصدق الله وحده، وأن اعتقادنا فيما هو كاذب لا يأتي من ناحية أخرى إلا عن طريق إرادتنا.
قال أبو عبدالرحمن: إنما يعني ديكارت المغيب عن الحس، وأن العقل نور الله الفطري خلقه الله للهداية لا الإضلال.
ويقول أصحاب الموسوعة في معرض النقد المبطن للميتافيزيقا: «فلم تكن الرياضة والعلوم الطبيعية وحدها هي التي ألهمت الميتافيزيقا، بل التاريخ وعلم الحياة والمنطق الصوري أيضاً.. فالتطورات التي كانت قد حدثت في دراسة التاريخ تكمن وراء مذهب هيجل.. كما يمكن أن نرى ميتافيزيقا النزعة الذرية المنطقية في شطر منها تعبيراً عن ارتياح عميق للتقدم الذي أحرزه المنطق الصوري في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
وليس الاهتمام بالعلوم النظرية وحدها هو الذي يغذي الدافع إلى المراجعة الميتافيزيقية، فقد تبحث الأديان والأخلاقيات عن التأييد الميتافيزيقي وقد تجده، وقد تندمج عناصر متباينة الأنواع في مذهب واحد كما هي الحال بالنسبة لمذهب سبينوزا الذي يعبر عن موقف علمي كامل وأخلاقي عميق في آن واحد» [الموسوعة الفلسفية المختصرة ص 469].
قال أبو عبدالرحمن: الميتافيزيقا شيء يتعلق به العلم، وسبيل يحصل به العلم.
أما ما يتعلق به العلم ففي الميتافيزيقا معارف كاذبة تكهنية، ولكل حقلِ علمٍ ميتافيزيقاه، والعبرة بالبرهان الموصل.
وأما سبيل العلم فمصادر معروفة عمادها العقل لأنه مصدر لتحصيل المعرفة بذاته، وذلك ما تدركه المبادئ الفطرية.. كما أنه مصحح لكل معرفة في الوجود ؛ لأنه الذي يحكم بصدق المعرفة ووجودها ؛ ولهذا جعله الله شرط التكليف ؛ لأنه المخاطب في تلقي الشرائع، وهو الذي يفهم المراد.
وكل برهان أدى إلى معرفة الوجود مجرداً عن الكيفية، أو إلى معرفة الوصف المجمل أو المفصل من غير تكييف ولا تشبيه: فذلك السبيل من السبل إلى العلم ميتافيزيقي عندهم ؛ لأنه أدى إلى معرفة غيبي.. وكان الأحق أن تقصر الميتافيزيقا على المغيب فحسب، لأن سبيل العلم المحدود عن المغيب هو نفسه من سبل العلم بالمشاهدات.
وعلى هذا فما ذكرته الموسوعة من المعارف الجديدة في الرياضة والطبيعة والمنطق ... إلخ: معارف لم تنف آفاق العقل في المعرفة، ولم تلغ شروط العقل في المعرفة.. ولو ادعت ذلك لكانت وهماً.. وإنما شككت في حقائق مغيبة بغير برهان، ونفت خرافات من الميتافيزيقا الباطلة لم يكن لها شرف التنبه إلى بطلانها.
ومن الكلام المعكوس الزعم بأن الأديان والأخلاقيات قد تجد التأييد من الميتافيزيقا !!.
قال أبو عبدالرحمن: كيف يكون هذا والأديان مصدر للميتافيزيقا.. إلا أن أي واقع مغيب ثبت بشرع سماوي صحيح الدلالة والثبوت فهو ميتافيزيقا صحيحة، وما عدا ذلك فلا.
وأما الأخلاقيات فحجتها أمور منها العقل، والعقل ليس وقفاً على الميتافيزيقي وحده حتى تكون الميتافيزيقا مرجعاً للأخلاقيات.
وأما سبينوزا اليهودي فحسبك في تعمده الإغواء للبشرية ذلك التتبع المتأني لأفكاره في الحق الطبيعي بكتابه رسالة اللاهوت والسياسة، وذلك بكتابي عن الحق الطبيعي وقوانينه.
وفي الفلسفة النقدية إغواء متعمد في دعواها أن الميتافيزيقي يستخدم الأفكار العقلية بطريقة تنافي الشروط التجريبية.. فإذا أُقنع طالب الحقيقة بأن معارف الميتافيزيقا تنافي التجربة - والبرهان التجريبي مجمع عليه؛ لأن التجربة أصدق برهان -: فإنه يحكم بسهولة على أن كل ميتافيزيقا خرافية !!.
ووجه الإغواء الخلط بين ثنائيتي المعرفة، وتناسي حجم المعرفة التي تدعيها الميتافيزيقا الصادقة.
والتجربة تجربتان: الأولى إحضار المعلوم للتطبيق مرة أخرى كمقولة: «السنا مسهل»، فتلك حقيقة تجريبية ؛ لأنك تعيدها للتطبيق المشاهد.
والثانية: تجريب الأفكار العقلية الموصلة للمعرفة الميتافيزيقية بأن تكون مطردة في تحصيلها المعارف مشهودة.
والميتافيزيقا الصحيحة لا تكون إلا بأفكار عقلية لم تنخرم حقائقها في المشاهدة، ولا يمكن أن تخضع للتجربة الثانية ؛ لأن الميتافيزيقي لا يدعي علماً موجوداً في المشاهدة الراهنة، وإنما يدعي حقيقة مغيبة عُرف وجودها ووصفها بآثارها، أو ضرورتها، أو بوصف من يجب تصديقه.
والأفكار العقلية الصحيحة التي وصلت إلى الحقائق المشاهدة هي نفسها الموصلة للحقائق المغيبة.
وأحصت الموسوعة عيوب الميتافيزيقا في التالي: «فالتحريفات التي تصيب المدركات العقلية، وعدم الاتساق في المذاهب الذي يبديه التحليل، والأساطير المجردة التي تتظاهر بأنها الواقع، والادعاءات الضخمة والنتائج المتضاربة.. كل هذا يبدو للكثيرين على أنه ماهية المغامرة الميتافيزيقية وسبب كاف لإدانتها.
كما قابل البعض بين مبالغات الميتافيزيقا، وبين رزانة منهج التحليل الفلسفي الذي يرمي إلى توضيح مفاهيمنا توضيحاً بين ما تؤديه أداء فعلياً في استخدامنا لها» [الموسوعة الفلسفية المختصرة ص 470 - 471].
قال أبو عبدالرحمن: هذه هي المعارف الكاذبة، ولا يضير حقائق الغيب أن توجد معارف وهمية يعتقدها ميتافيزيقي أو غيره.
والميتافيزيقا الكاذبة توجد أيضاً في العلم وفي المذاهب المعرفية الأخرى كهذه الظنون التاريخية عن بدء الخلق، فكلها ميتافيزيقيا لأنها مغيبات، ومنها الصحيح الثابت بالشرع، ومنها الخرافي الذي يدعيه العلم وبرهانه غير علمي، وإلى لقاءٍ قادم إنْ شاءَ الله تعالى, والله المُستعانُ.
** **
كتبه لكم/ (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، و عنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-