حسن اليمني
الإثارة والحماس للإنسان تعطي شحنة ودفعة لتجديد النشاط والحيوية للنفس البشرية وتحفزها على العمل والإنتاج، والمسابقات التنافسية وخاصة كرة القدم في عصرنا الراهن تعد أحد أهم صُنّاع الإثارة والحماس في النفوس والعقول ومجال خصب لملء فواصل التفكير والاهتمام لعقل الإنسان.
وكون أن مسابقات كرة القدم هي سيّدة الاهتمام في الإثارة والحماس على مستوى العالم، فقد تصاعدت تكلفتها إلى مبالغ خيالية تجعل قدم الرجل في الإنسان أغلى وأثمن من خلايا المخ في الجمجمة البشرية، ويكفي أن تعلم أن مرتب معلم أو معلمة لمدة عام لا يساوي نسبة تذكر مع مرتب شهر للاعب كرة قدم، ومردود العمل بين مهارة لاعب الكرة وبين مهارة المعلم أو المعلمة غير قابل للمقارنة من الأصل، ذلك أن غياب التعليم يعني الجهل وغياب الالهاء في كرة القدم ينشط العقل ويستفزه للتفكير.
نشاط العقل والتفكير بين الناس يرفع تكلفة الجهد لدى السياسيين ويصعب عملهم، وربما يدخل بعض الدول في أزمات أمن واستقرار بدعم الفوضى والتمزق الاجتماعي، لتصبح صناعة الإلهاء في الأهمية مثل ضبط الأمن وتقوية الدفاع العام للوحدة الاجتماعية، وهذه مفارقة بالمنظور الفلسفي مثيرة وملّهمة للتأمل والتفكير.
إن من أهم وأكبر المهام للسياسة في إدارة الناس هو توجيهها وإدارة تطلعاتها نحو ما يعود عليها بالنفع واستقرار الأمن والسلامة، لهذا تظهر عملية صناعة التوازن في ذهنية الإنسان لتوسعة حجم القدرة والكفاءة من خلال صناعة وخلق الاتجاه الإيجابي على حساب الاتجاه السلبي الهادم، يأتي هذا من خلال ما يشبه الخلط الكيميائي بين الجد والهزل بين الاهتمام والالهاء، وتظهر المهارة السياسية في ضبط النسبة والتناسب بين هذه التناقضات الطبيعية، فلا شك أن الجد نقيض للهزل والاهتمام نقيض اللهو، لكن لصحة التقويم لا بد من وجود النقيضين لصناعة التوازن الإيجابي للإنسان.
إن لاختلاف وتباين درجات التقدم والتطور في مجتمعات دول العالم اليوم أهمية كبيرة تستدعي القراءة والاهتمام في ضبط النسبة والتناسب في عملية صناعة التوازن في تلك التناقضات الطبيعية المكملة لبعضها لإنتاج وعي إيجابي يخدم المجتمع والدولة، فمثل أن المهارة مختلفة بين الناس كذلك الحال بين الدول في القدرة على بناء الاتجاه الإيجابي للفكر الجمعي، ولا يوجد مجتمع بشري فوق الأرض اليوم يخلو من الشغف المتجانس فيما بينه لتوازن حياته اليومية، شعف يجمع بين الجد واللهو وبين العمل والمتعة أو بالضبط العسكري (استعد، استرح) لهذا تختلف مسافات النسب في الجمع بين النقيضين على مختلف المجتمعات والدول أو بالأصح الاهتمام لدى النظم السياسية لمختلف الدول حسب مستوى الاختلاف والتباين في درجات التقدم والتطور.
إن عملية إدارة الشغف الجمعي في المجتمع وتوجيهه تعد من أصعب الأمور وأدقها، وإن سقنا النظر نحو مجتمعنا المسلم العربي السعودي فسنجد أن هذه العملية المهمة مرت بعدة مراحل أو لنقل ألواناً عُني بها أن تكون متوافقة ومتناسبة في الطابع الأعم ضمنا وليس شكلا حكم ذلك الحضور الأبرز، ومعلوم ان الحضور الأبرز لا يعني النسبة الأكبر وإنما الصوت الأعلى، وبالمختصر فقد مررنا بمرحلة بسط أكبر مساحة من الجدية إلى درجة تهميش كل مساحة استرخاء أو لهو لكن ذلك لم ينتج لنا إلا تصلب وتطرف في النظرة والفكرة والرؤية، ثم تزحزحت مساحة الجدية قليلا لفك الشدّ والانقباض وهكذا حتى وصلنا مرحلة الخروج من الصندوق لقراءة شغفنا الجمعي والاستعداد لإدارته وسوقه نحو الاتجاه الإيجابي، تم رفع السياحة والترفيه والرياضة والفن مقابل الجدية والشدّ والانقباض لاستعادة التوازن الطبيعي للعناصر المتناقضة لتركيب العنصر الإيجابي بالشكل الصحيح.
بقي أن أقول إنها مرحلة مخاض صعب إبرة ميزانها أدق من الشعرة تُسقط كثير من المفاهيم كضحايا براءة أو عدم استيعاب وبذات الدرجة والمعطى تظهر مفاهيم غير جيدة وبلهاء، وهذه وتلك من طبيعة عملية المخاض التي تستدعي الانتباه، حتى لا نعيد ذات التجربة وإن بشكل عكسي بحيث نبسط أكبر مساحة من الاسترخاء واللهو على حساب مساحة الجدية أو أن نعطي ركلة كرة بالقدم قيمة أعلى من فكرة في العقل وإن كان لطبيعة المرحلة معطياتها الضرورية.